وأتى على ابنه محمّد وهو صريع فوقف عليه وقال : هذا رجل قتله برّه بأبيه [1] . وصلّى عليّ ( عليه السلام ) على جميع القتلى من أهل البصرة والكوفة وغيرهم وأمر فدُفنت الأطراف [2] جميعاً في قبر عظيم وجمع ما في العسكرين من سلاح وثياب وطرح في المسجد وقال : من عرف شيئاً فليأخذه إلاّ سلاحاً في الخزائن [ كان ] عليه سمة السلطان [3] . ولمّا فرغ عليّ ( عليه السلام ) من الواقعة أتاه [4] الأحنف بن قيس [5] في بني سعد يهنّونه
[1] تقدّمت تخريجاته بالإضافة إلى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : 1 / 98 . [2] ذكر ابن أعثم في الفتوح : 1 / 487 أنّ عدد الأطراف الّتي قطعت على الخطام يومئذ ثماني وتسعون يداً . [3] انظر تاريخ الطبري : 3 / 542 باختلاف يسير ، انظر الخراج لأبي يوسف : 215 ، السنن الكبرى : 8 / 180 شرح النهج لابن أبي الحديد : 1 / 23 وانظر جورج جرداق في كتابه الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية : 1 / 82 ، ومستدرك الوسائل : 2 / 251 - 252 لتجد سيرته ( عليه السلام ) مع معارضيه . [4] في ( أ ) : أتى . [5] هو أبو بحر الضحّاك ، وقيل : صخر بن قيس بن معاوية بن حصين أو حصن بن عبّاد بن مُرة بن عبيد ، المعروف بالأحنف التميمي السعدي أُمّه امرأة من باهلة . سمّي بالأحنف لحنف كان في رجله ، فإنّه كان يطأ على ظهرها ، أسلم في عهد النبىّ ( صلى الله عليه وآله ) ولم يره ، وكان سيّد قومه موصوفاً بالعقل والدهاء والعلم والحلم . شهد بعض الفتوح في زمن عمر وعثمان . واعتزل الجمل وشهد صفّين مع عليّ ( عليه السلام ) ولمّا بايع معاوية ليزيد تكلم الناس في مدحه ، فقال له معاوية : ما بالك لاَ تقول يا أبا بحر ؟ فقال : أخاف الله إن كذبت ، وأخافكم إن صدقت . وخرج مع مصعب بن الزبير إلى الكوفة ومات بها سنة ( 67 ه ) على الأشهر عن ثمانين سنة ودُفن عند قبر زياد بالثوبة - موضع بظاهر الكوفة - وقيل : ولد الأحنف ملتصق الأليتين ، حتّى شُقّ ما بينهما ، وكان الأحنف أعور . انظر ترجمته في الاستيعاب : 1 / 56 الترجمة رقم 160 ، أُسد الغابة : 1 / 55 ، وفيات الأعيان : 1 / 186 - 192 الترجمة رقم 282 ، المعارف لابن قتيبة تحقيق ثروة عكاشة : 423 . ومن الجدير ذكره أنّ الإمام عليّ ( عليه السلام ) بعث إلى الأحنف بن قيس عندما وصل جند المرأة إلى حفر أبي موسى الأشعري - وهو مياه عذبة على جادة البصرة إلى مكة حفره أبو موسى الأشعري . بينه وبين البصرة خمس ليال كما ذكر صاحب معجم البلدان - فقال له : إنّ هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله ، والناس إليها سراع كما ترى . فقال الأحنف : إنّهم جاؤوك للطلب بدم عثمان ، وهم الّذين ألّبوا على عثمان الناس وسفكوا دمه ، أراهم والله لاَ يزايلونا حتّى يلقوا العداوة بيننا ، ويسفكوا دماءنا ، وأظنّهم والله سيركبون منك خاصّة مالا قبل لك به إن لم تتأهّب لهم بالنهوض إليهم في مَن معك من أهل البصرة ، فإنّك اليوم الوالي عليهم ، وأنت فيهم مطاع ، فسر إليهم بالناس وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة ، فيكون الناس لهم أطوع منهم لك . وقال ابن أعثم في الفتوح : 1 / 460 : إنّهم - طلحة والزبير وعائشة - بعثوا إلى الأحنف بن قيس فدعوه وقالوا : إننا نريد منك أن تنصرنا على دم عثمان بن عفان ، فإنّه قُتل مظلوماً ، قال : فالتفت الأحنف إلى عائشة وقال : يا أُمّ المؤمنين ! أُنشدك الله أما قلتِ لي ذلك اليوم إن قتل عثمان فمن أُبايع ؟ قلت : عليّ بن أبي طالب ؟ فقالت عائشة : قد كان ذلك يا أحنف ، ولكن هاهنا أُمور نحن بها أعلم منك ، فقال الأحنف : لاَ والله لاَ أُقاتل عليّ بن أبي طالب أبداً ، وهو أخو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وابن عمّه وزوج أبنته وأبو سبطيه وقد بايعه المهاجرون والأنصار . قال : ثمّ وثب الأحنف حتّى صار إلى ديار قومه من بنى تميم ، ثمّ نادى فيهم فاجتمع إليه أربعة آلاف رجل ، فسار بهم حتّى نزل بهم على فرسخين من البصرة . وروى البيهقي في المحاسن والمساوى : 1 / 35 عن الحسن البصري أنّ الأحنف بن قيس قال لعائشة يوم الجمل : يا أُمّ المؤمنين هل عهد إليك رسول الله هذا المسير ؟ قالت : اللّهمّ لاَ ، قال : فهل وجدته في شيء من كتاب الله جلّ ذكره ؟ قالت : ما نقرأ إلاّ ما تقرأون قال : فهل رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) استعان بشيء من نسائه إذا كان في قلّة والمشركون في كثرة ؟ قالت : اللّهمّ لاَ ، قال الأحنف : فاذاً ما هو ذنبنا ؟ وفي رواية أُخرى انّه قال لها : يا أُمّ المؤمنين انّي سائلك ومغلظ لك في المسألة فلا تجدي عليَّ ، فقالت له : قل تسمع . قال : أعندك عهد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في خروجك هذا ؟ فقالت : لاَ . . . أعندك عهد منه ( صلى الله عليه وآله ) انّك معصومة من الخطأ ؟ قالت : لاَ . . . إلى أن أحرجها فقالت : إلى الله أشكو عقوق أبنائي . ( انظر الغدير : 8 / 99 وشرح النهج لابن أبي الحديد : 2 / 500 قريب منه ) . وهنالك موقف آخر للأحنف بن قيس يذكره ابن أعثم في الفتوح : 1 / 465 ، قال : وأقبل الأحنف بن قيس في جماعة من قومه إلى عليّ ( عليه السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين ! إنّ أهل البصرة يقولون بأنك إن ظفرت بهم غداً قتلت رجالهم وسبيت ذرّيتهم ونساءهم ، فقال له عليّ : ليس مثلي من يخاف هذا منه ، لأنّ هذا ما لاَ يحلّ إلاّ ممّن تولّى وكفر ، وأهل البصرة قوم مسلمون ، وسترى كيف يكون أمري وأمرهم ، ولكن هل أنت معي فاعلم ، فقال الأحنف : يا أمير المؤمنين ! اختر مني واحدة من اثنين ، إمّا أن أكون معك مع مائتي رجل من قومي ، وإمّا أن أردّ معك أربعة آلاف سيف ، فقال عليّ ( عليه السلام ) لابل ردّهم عنّي ، فقال الأحنف : أفعل ذلك يا أمير المؤمنين ، ثمّ انصرف . ( وانظر تاريخ الطبري : 3 / 510 - 513 مع اختلاف يسير في اللفظ ) . وموقف الأحنف هذا يذكّرنا بموقف ومواقف أُخرى لكن نذكر منها موقف لا هيان بن صيفي : روي أنّ الإمام عليّ ( عليه السلام ) ذهب إلى لا هيان بن صيفي ، وكان له صحبة . فقام الإمام على باب حجرته وقال له : كيف أنت يا أبا مسلم ؟ قال : بخير ، فقال الإمام : ألا تخرج معي إلى هؤلاء القوم فتعينني ؟ قال : إن خليلي عليه الصلاة والسلام وابن عمّك . عهد إليَّ إذا كانت فتنة بين المسلمين أن اتخذ سيفاً من خشب ، فهذا سيفي فإن شئت خرجت به معك ، فقال الإمام : لاَ حاجة لنا فيك ولا في سيفك . ورجع من باب الحجرة ولم يدخل . ( رواه أحمد والترمذي وحسّنه ابن ماجة ونعيم بن حمّاد ، وأورده ابن حجر في الإصابة ، وابن كثير في البداية ، والفتح الربّاني : 23 / 138 ، وجامع الترمذي : 4 / 490 ) . لم يكن الإمام عليّ ( عليه السلام ) بحاجة إلى هؤلاء ولكنه ( عليه السلام ) قام بهذا العمل من باب ان المقام مقام حجة والاختيار مفتوح دون أن يوجّه أيّ اتهام لأحد . ولكن السؤال الّذي يطرح نفسه هو : ما السبب الّذي دعا هؤلاء إلى الاعتزال ؟ هل هي فتوى أبو بكرة ( نُفَيع بن الحارث ) كما تطرّقنا إليها سابقاً وأشرنا إلى مصادرها ؟ أم هنالك شيء آخر ؟ أم انّه عهد معهود مِن قِبل الله تعالى ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) بأنّ الإمام ( عليه السلام ) يقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين ؟ أم انّها الفتنة الّتي تكلّم عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والإمام عليّ ( عليه السلام ) ؟ حيث ينقل ابن أبي الحديد في شرح النهج : 1 / 667 ، و : 3 / 277 ، وكنز العمّال : 16 / 183 ، و : 11 / 606 ، والبيان والتبيين للجاحظ : 2 / 112 ، وتاريخ اليعقوبي : 2 / 152 ، وصحيح مسلم : 18 / 11 ، وصحيح البخاري : 4 / 122 ، وفتح الباري : 13 / 56 ، والجامع : 4 / 528 ، والمستدرك : 3 / 119 ، والكامل في التاريخ : 3 / 122 و 231 ، والطبري في تاريخه : 5 / 198 ، وغيرهم كثير من الأحاديث في هذا المقام ، ولكننا نكتفي بذكر حديث واحد . روي عن عليّ ( عليه السلام ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال له : إنّ الله قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب عليَّ جهاد المشركين ، فقال عليّ : يا رسول الله ، ما هذه الفتنة الّتي كتب عليَّ فيها الجهاد ؟ قال : قوم يشهدون أن لاَ إله إلاّ الله وأني رسول الله ، وهم مخالفون للسنّة ، فقلت : يا رسول الله فعلام أُقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد ؟ قال : على الإحداث في الدين ومخالفة الأمر ، فقلت : يا رسول الله ، إنك كنت وعدتني الشهادة فاسأل الله أن يجعلها لي بين يديك ، قال : فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين . . . ( رواه وكيع في كنز العمّال : 16 / 183 ، وابن أبي الحديد في شرح النهج : 3 / 377 ، المناقب للخوارزمي : 125 ، تاريخ ابن عساكر : 3 / 200 ط بيروت ، سير أعلام النبلاء للذهبي : 3 / 231 . ومن هذا وذاك جاءت فكرة الاعتزال الّتي بشّر بها أبو بكرة عندما قال : يا أحنف ارجع فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : إذا تواجه المسلمون بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار . . . ولذا نرى الأُستاذ سعيد حوى يعقّب على هذا الحديث في كتابه الأساس في السنّة : 4 / 1711 فيقول : إنّ القتال مع عليّ بن أبي طالب كان حقاً وصواباً ، ولكن أبو بكرة حمل حديثاً ورد في غير الحالة الّتي قاتل فيها عليّ ، على حالة قتال عليّ للباغين . وهو فهم من أبي بكرة . ولكنه فهم في غير محلّة . . . كذلك ألتبس العنوان على الحارث بن حوط الليثي عندما دخل على أمير المؤمنين . فقال : يا أمير المؤمنين ما أرى طلحة والزبير وعائشة . أضحوا إلاّ على الحق . ولكن الإمام ( عليه السلام ) أجاب بقوله : يا حارث إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك ، إنّ الحقّ والباطل لاَ يُعرفان بالناس ، ولكن اعرف الحقّ باتباع من اتبعه ، والباطل باجتناب من اجتنبه . ( انظر تاريخ اليعقوبي : 2 / 152 ، والبيان والتبيين : 2 / 112 ) . وعلّق الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال على هذا القول فقال : العاقل من يقتدي بسيد العقلاء علي كرّم الله وجهه حيث قال : لاَ يُعرف الحقّ بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله .