بيّتونا فرددناهم فركبونا فثار الناس وثبت القتال ، فقال عليّ ( عليه السلام ) : قد علمت أنّ طلحة والزبير غير منتهين حتّى يسفكا الدماء وإنّهما لم يطاوعا . والسبأية لاَ تفتر عن القتال وقد وضع الناس السيف في بعضهم بعضاً [1] ، فأقبل كعب بن سور على عائشة فقال لها : أركبي وقد أبى الناس إلاّ القتال فأركبوها هودجاً وألبسوا هودجها الأدراع وشدّوا على جملها " عسكراً " وأبرزوه للناس " [2] . ثمّ إنّ علياً ( عليه السلام ) نادى في معسكره : أيّها الناس أُنشدكم الله أن لاَ تقتلوا مدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تستحلّوا سبياً ، ولا تأخذوا سلاحاً ولا متاعاً [3] . ثمّ إنّه ( عليه السلام )
[1] انظر تاريخ الطبري : 3 / 517 - 522 ولكن سبق وأن فنّدنا أُسطورة السبأية وبيّنا كيف نشأ القتال ودور مروان وأصحابه . [2] تقدّمت ترجمته واستخراج هذا القول أيضاً . انظر الفتوح لابن أعثم : 1 / 473 ، و : 485 ، وتاريخ الطبري : 3 / 518 . [3] انظر الطبري في تاريخه : 3 / 518 و 545 تحت عنوان " سيرة عليّ فيمن قاتل يوم الجمل " : أن لاَ يُقتل مدبراً ولا يذفّف على جريح ولا يكشف ستراً ولا يأخذ مالا . . . وهاهو مروان يقول للإمام عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) : ما رأيت أحداً أكرم غلبة من أبيك ، ما هو إلاّ أن ولّينا يوم الجمل فنادى مناديه : لاَ يُقتل مدبر ولا يذفّف على جريح . ( السنن الكبرى للبيهقي : 8 / 181 ) . ولسنا بصدد بيان كلّ ما جاء عنه ( عليه السلام ) في وصاياه وخطبه لأصحابه يوم الجمل وكذلك يوم صفّين وغيرهما لأن سيرته ( عليه السلام ) مع معارضيه واضحة جداً لاَ غبار عليها ، ولم يبدأ الحرب حتّى يبدأوه بالقتال ، وحين ينتصر يعفو عنهم وعن أموالهم . وهاهي عائشة تسير بعد الجمل معزّزة مكرّمة إلى المدينة ويصفه ابن أبي الحديد في شرحه : 10 / 228 فيقول : كان عليّ ( عليه السلام ) لاَ يستعمل في حربه إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة ، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنّة . . . ثمّ قال : وعليّ ( عليه السلام ) يقول : لاَ تبدأوهم بقتال حتّى يبدأوكم ، ولا تتبعوا مدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تفتحوا باباً مغلقاً . وقال القاضي أبو يوسف في كتابه الخراج : 215 : إنّ الصحيح عندنا من الأخبار عن عليّ ( عليه السلام ) أنّه لم يقاتل قوماً قط من أهل القبلة ممن خالفه حتّى يدعوهم ، وإنّه لم يتعرّض بعد قتالهم وظهوره عليهم لشيء من مواريثهم ولا لنسائهم ولا لذراريهم ، ولم يقتل منهم أسيراً ، ولم يذفّف منهم على جريح ، ولم يتّبع منهم مدبراً . وجاء مثل هذا في كتاب أُصول الدين لأبي منصور التميمي البغدادي : 284 نقلا عن الإحقاق : 8 / 550 ، والسنن الكبرى للبيهقي : 8 / 181 ، والطبري في تاريخه : 3 / 545 كما ذكرنا سابقاً بإضافة فقال قوم يومئذ : ما يُحلّ لنا دماءهم ، ويحرّم علينا أموالهم ؟ فقال ( عليه السلام ) : القوم أمثالكم ، من صفح عنّا فهو منّا ونحن منه ، ومن لجّ حتّى يصاب فقتاله منّي على الصدر والنحر ، وأنّ لكم في خمسه لغنى . وقال جورج جرداق في كتابه الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية : 1 / 82 : ومروءة الإمام أندر من أن يكون لها مثل في التاريخ ، وحوادث المروءة في سيرته أكثر من أن تعدّ ، ومنها : أنّه أبى على جنده أن يقتلوا عدوّاً تراجع ، وأن يتركوا عدوّاً جريحاً فلا يسعفوه ، كما أبى عليهم أن يكشفوا ستراً أو أن يأخذوا مالا . ومنها : أنّه صلّى في وقعة الجمل على القتلى من أعدائه وسأل لهم الغفران . . . ( انظر مستدرك الوسائل : 2 / 251 و 252 وروى اليعقوبي في تاريخه : 2 / 180 والمسعودي في مروجه بهامش ابن الأثير : 5 / 188 ، وابن أعثم في تاريخه : 175 ، والأغاني : 16 / 127 ، وأبو مخنف في الجمل برواية ابن أبي الحديد في شرحه للنهج : 2 / 480 وفي عباراتهم بعض الاختلاف قالوا : لمّا تزاحف الناس يوم الجمل والتقوا قال عليٌّ : لاَ تقاتلوا القوم حتّى يبدأوكم ، فإنّكم بحمد الله على حجّة وكفاكم عنهم حتّى يبدأوكم حجّة أُخرى ، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح ، وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبراً ، ولا تكشفوا عورةً ، ولا تمثّلوا بقتيل ، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلواً داراً ، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً .