لم يبق من الحيوانات شيء ، وهم ينظرون إليها ، وبقيت القيروان أربعين سنة لم ير فيها خشاش ولا هوام ، فكان عقبة بن نافع أول من اختط القيروان ، وأقطع مساكنها ودورها للناس وبنى مسجدها ، وتنازعوا في قبلة الجامع ، فبات عقبة مغموماً ، فرأى في المنام قائلاً يقول له : خذ اللواء بيدك فحيث ما سمعت التكبير فامش ، فإذا انقطع التكبير فاركز اللواء فإنه موضع قبلتكم ، ففعل عقبة ذلك ، فهو موضع القبلة ، وهو محراب جامع القيروان إلى اليوم . وقد هدم حسان بن النعمان جامع القيروان وبناه حاشا المحراب فإنه تركه ، ويقال إنه هدم وبني نحو ثلاث مرات ، كل وال يلي القيروان يريد أن يكون الجامع من بنيانه ، وكانوا يتركون المحراب تبركاً ببناء عقبة ، وكان مستجاب الدعوة ويقال له : عقبة المستجاب ، وهو المقتول بتهودة على يدي البربر ، ويقال إنه لما أراد معد بن إسماعيل الشيعي تحريف قبلة مسجد القيروان سنة خمس وأربعين وثلاثمائة ، بلغه أن أهل القيروان يقولون : إن الله عز وجل يمنعه بدعاء عقبة ، فلما وصل ذلك إلى معد غضب ، وأمر بنبش قبر عقبة بن نافع وإحراق رمته بالنار ، وكان قبره بظاهر تهودة حيث استشهد ، وبعث معد لذلك خمسمائة فارس وراجل ، فلما دنوا من قبره وحاولوا ما أمرهم به هبت عليهم ريح عاصفة ولاحت بروق خاطفة وقعقعت رعود قاصفة كادت تهلكهم ، فانصرفوا ولم يعرضوا له ، فخافوا عقوبة معد فتاهوا في صحارى إفريقية حتى سمعوا أنه هلك ، فحينئذ رجعوا إلى أوطانهم مستبصرين . وبإزاء محراب جامع القيروان الساريتان المشهورتان الحمراوان المشوبتان بالصفرة اللتان لم ير الراءون أحسن منهما ولا مثلهما ، كانتا في كنيسة من كنائس الروم فنقلهما إلى جامع القيروان حسان بن النعمان ، وهما يقابلان المحراب ، عليهما القبة المتصلة بالمحراب . وروي أن صاحب القسطنطينية بذل له فيهما قبل نقلهما إلى الجامع زنتهما ذهباً فآثروا الجامع بهما . وخارج مدينة القيروان خمسة عشر ماجلاً للماء هي سقايات لأهل القيروان ، منها ما بني في أيام هشام بن عبد الملك بن مروان وفي أيام غيره من الخلفاء ، وأعظمها شأناً وأفخمها منصباً الماجل الذي بناه أحمد بن الأغلب بباب تونس من القيروان ، وهو مستدير متناهي الكبر ، وفي وسطه صومعة مثمنة ، وفي أعلاها قبة مفتحة على أربعة أبواب ، فإذا وقف الرامي على ضفته ورمى بأشد ما يكون من القسي لا يدرك الصومعة التي في وسطه ، وكان على ذلك الماجل قصر عظيم فيه من البناء العجيب والغرف المشرفة على ذلك الماجل كل شيء غريب ، وبجوفي هذا الماجل ماجل لطيف متصل به يقع فيه ماء الوادي إذا جرى ، فتنكسر فيه حدة جريانه ، ثم يدخل الماء الماجل الكبير ، وهذا الوادي الذي يدخل الماجل إنما هو واد شتوي يجري في أيام الشتاء ، فإذا امتلأ هذا الماجل وغيره من المواجل شرب منه أهل القيروان ومواشيهم ، ويرفع ماء هذا الماجل الكبير إلى أيام الصيف فيكون ماؤه بارداً عذباً صافياً كثير الماء ، وكان عبيد الله الشيعي يقول : رأيت بإفريقية شيئين ما رأيت مثلهما في المشرق ، الحفير الذي بباب تونس من القيروان ، يعني هذا الماجل الكبير ، والقصر الذي برقادة المعروف بقصر البحر . وكان يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب لما طلع إلى إفريقية دخل القيروان ووصل لجامعها وطاف على مشاهدها ومزاراتها ، ووقف على هذا الماجل معجباً به ، وجمع القبائل والأجناد لإخراج ترابه ، فرغب أهل القيروان إليه في تركه خيفة من ورود العرب عليه عند جفوف الهواء فتركه ، وفي هذا الماجل يقول الشاعر : وبالجملة فمدينة القيروان دار ملك المغرب ، ورأت من الممالك والملوك والدول والفقهاء والعلماء والصالحين ما لم يكن مثله في قطر من الأرض ثم محنت بالعرب والفتن ، وخلت من الناس وذهبت نضرتها ومحاسنها ، وبسط أخبارها يطول فلنقتصر على هذا القدر .