طرسوس : مدينة بالشام حصينة ، عليها سوران بينهما فصيل وخندق ، ويجري الماء حواليها . وفي سنة سبعين ومائة بني سور طرسوس على يد أبي مُسْلِم فرج الخصي التركي ، وجّهه مولاه هارون الرشيد لذلك ، وأنزلها الناس عام ولي الخلافة ، في جيش كثيف وعسكر ضخم إلى الثغور ، وأمره أن يبني مدينة طرسوس في المرج الذي في سفح الجبل ، ولم يكن هناك بناء قط ، وأن يجعل النهر يشق وسطها ، فابتدأ بناءها في جمادى سنة سبعين ومائة ، فخطَّ بها سبعة وثمانين برجاً مستديرة ومربعة ، على كل برج عشرون شرفة ، وبين كل برجين ست وخمسون شرفة ، عرض الشرفة ذراعان ونصف في ارتفاع مثل ذلك ، وحوالي سورها فصيل واسع متقن مرتفع السمك ، وخلف الفصيل خندق عريض عميق مبني بالصخر من أعلاه وأسفله مفروش كله بالصخر ، ولها خمسة أبواب : باب الجهاد ، وهو الباب الذي يخرج منه إلى المرج الذي يعسكر فيه أمراء الطوائف ، وباب الصفصاف ، وبين هذين البابين مدخل النهر الأعظم ، وعلى مدخله شباك حديد وثيق مفرط العظم ، و باب الشام ومنه يدخل زقاق أذنة والمصيصة والشام ، وباب كذا وباب البحر ، وعنده مخرج النهر ومصبّه في البحر ، وهناك أيضاً شباك حديد مثل الذي عند مدخله ، وباب يعرف بالباب المسدود ولم يفتح قط وعلى النهر داخل المدينة قنطرتان عظيمتان إحداهما تعرف بباب الصفصاف ، وأخرى تعرف بباب البحر ، فكمل بناؤها في سنة اثنتين وسبعين ومائة ، وسكنها المجاهدون والمرابطون واختطت بها الخطط والمنازل سنة ثلاث وسبعين ومائة ، فلم تبن مدينة أعظم غناء عن الإسلام ولا أشد نكاية على الكفرة ، ولا أجمع للمجاهدين ولا أبعد صوتاً ، ولا أجل مرأى ، ولا أتقن بناءً منها . فلما نزل الرشيد طرسوس أفرد الثغور من الجزيرة والشام ، وسمى الثغور الشامية والثغور الجزرية ، ونهرها يأتي من جبل الروم حتى يشق وسطها . ولي قضاءها أبو عبيد القاسم بن سلام وفيها دفن المأمون بن الرشيد وكان خرج غازياً فمرض بعين البذندون فمات هناك ، فحمل إلى طرسوس فدفن بها ، وفي ذلك يقول أبو سعيد المخزومي : ما رأيت النجوم أغنت عن الماء * مون شيئاً وملكه المأسوسِ خلفوه بعرصتي طرسوس * مثلما خلفوا أباه بطوس وذكر الحسين بن الضحاك قال : استحضر المأمون الجلساء والمغنين آخر جلسة جلسها بدمشق ، وقد عزم على الخروج إلى البذندون ، وقال لمخارق وعلويه : غنّيا ، فسبق مخارق فغنى بشعر جرير : لما تذكرت بالديرين أرقني * صوتُ الدجاج وقرع بالنواقيس فقلت للركب إذ جدّ المسير بنا * يا بُعْدَ يبرين من بابِ الفراديس فغنى علوية في معنى شعر : ألحَيْنُ ساق إلى دمشق وما * كانت دمشق لأَهلنا بلدا فضرب بالقدح الأرض وقال : مالك فض الله فاك ، ودمعت عينه ، وقال لأخيه أبي إسحاق : أَسمعت ، لا أحسبني والله أرى بالعراق أبداً ، وقال : خذوا بيد هذا الجاهل أو النذير ، وأعطوا مخارقاً ثلاثة آلاف درهم ، وتقوض المجلس ولم يعد بعد . قال علوية : وكدت أحبس لولا كرم المأمون ، وصار إلى البذندون على أثر ذلك فهلك في رجب سنة ثمان عشرة ومائتين . وطرسوس مدينة كبيرة كثيرة المتاجر ، والعمارة والخصب الزائد وبينها وبين البحر اثنا عشر ميلاً . وفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة تغلب الروم على طرسوس