البومة فيبني مدينة وينزلها بهؤلاء القوم وينزلها ولده من بعده ، وما سر الرشيد يومئذ بشيء من الصيد كما سر بصيدي لتلك البومة . ثم عزم المعتصم على أن ينزل بذلك الموضع فأحضر محمد بن عبد الملك الزيات وغيره وقال لهم : اشتروا من أصحاب هذا الدير هذه الأرض وادفعوا لهم ثمنها أربعة آلاف دينار ، ففعلوا ذلك ثم احضروا المهندسين وقالوا : اختاروا أصلح هذه المواضع ، فاختاروا عدة مواضع للقصور ، وصير إلى كل واحد من أصحابه بناء قصر ، فصير إلى خاقان أبي الفتح بن خاقان بناء قصر الجوسق الخاقاني ، وإلى عمر بن فرج بناء القصر المعروف بالعمري ، ثم خط القطائع للقواد والكتاب ، وخط المسجد الجامع ووسعت صفوف الأسواق وجعلت كل تجارة منفردة وكل قوم على حدتهم على ما رسمت عليه أسواق بغداد ، وأشخص إليه البناؤون والنجارون والحدادون وغيرهم ، وسيق إليه الساج وسائر الخشب والجذوع من البصرة وما والاها من بغداد ، ومن أنطاكية وسواحل الشام ، وسيق إليه الرخام والعمد ، فأقيمت باللاذقية دور صناعة للرخام ، وأفرد قطائع الأتراك عن قطائع الناس جميعاً وجعلهم معتزلين عنهم لا يختلطون بقوم من المولدين ولا يجاورهم إلا الفراغنة ، فأقطع أشناس وأصحابه الموضع المعروف بالكرخ وضم إليه عدة من قواد الأتراك والرجال وأمره أن يبني المساجد والأسواق ، وأقطع خاقان وأصحابه مما يلي الجوسق الخاقاني وأمر بضم أصحابه ومنعهم من الاختلاط بالناس ، وأقطع وصيفاً وأصحابه وبنى حائطاً سماه حائط الجسر ممتداً وصير قطائع الأتراك جميعاً والفراغنة العجم بعيدة من الأسواق في شوارع واسعة ودروب طوال لا يختلط بهم غيرهم ، وزوجهم السراري ومنعهم من التصاهر إلى أحد وأجرى لجواري الأتراك أرزاقاً قائمة وكتب أسماءهن في الديوان فلم يكن أحد يطلق امرأته ولا يفارقها ، وجعل في كل موضع سويقة فيها عدة حوانيت للعامة مما لا بد لهم منه ، وامتد بناء الناس من كل ناحية وجعلت الشوارع لقطائع قواد خراسان وأصحابهم من الجند والشاكرية وعن يمين الشوارع ويسارها الدروب وفيها منازل الناس كافة ، واتسع الناس في البناء بسر من رأى أكثر من اتساعهم ببغداد وبنوا المنازل الواسعة ، إلا أن شربهم جميعاً من دجلة مما يحمل في الروايا على البغال والإبل لأن آبارهم بعيدة الرشاء ملحة الماء فليس لهم اتساع في الماء . وبلغت غلات سر من رأى وأسواقها عشرة آلاف ألف درهم في السنة ، وقرب محمل ما يأتي من الميرة من الموصل وسائر ديار ربيعة في السفن في دجلة فصلحت أسعارها . ثم لما فرغ المعتصم من الخطط ومن وضع أساس البناء الشرقي من دجلة ، وهو جانب سر من رأى ، عقد جسراً إلى الجانب الغربي من دجلة ، وصير إلى كل قائد عمارة ناحية من النواحي ، وحمل النخل من بغداد والبصرة وسائر النواحي وحملت الغروس من الجزيرة والشام والجبل والري وخراسان وسائر البلدان وكثرت المياه في هذه العمارات في الجانب الشرقي بسر من رأى ، وصلح النخل ونبتت الأشجار وزكت الثمار وحسن الريحان والبقل وزرع الناس أصناف البقل والزرع والرياحين فزكا كل ما زرع فيها وغرس لجمام الأرض ، حتى بلغ مستغل العمارة بالنهر الإسحاقي والعمري والعربات المحدثة وخراج الجنات والبساتين مائة ألف دينار في السنة ، وأقدم المعتصم من كل بلد من يعمل عملاً من الأعمال ويعالج منه من مهن العمارة والزرع والنخل والغروس وهندسة الماء ووزنه واستنباطه ، وحمل من مصر صناع القراطيس ، ومن البصرة صناع الزجاج والخزف ، وجعل لهؤلاء الواصلين من أصحاب المهن قصوراً وأسواقاً فحسنت العمارات ورغب وجوه الناس في أن يكون لهم بها أدنى أرض وتنافسوا في ذاك وبلغ الجريب من الأرض مالاً كبيراً . ومات المعتصم سنة سبع وعشرين ومائتين وولي الخلافة ابنه هارون الواثق فبنى القصر المعروف بالهاروني على دجلة وانتقل إليه ، ثم توفي الواثق سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وولي جعفر المتوكل بن المعتصم فنزل الهاروني وآثره على جميع قصور المعتصم ، ونزل محمد ابنه المنتصر قصر المعتصم المعروف بالجوسق وأنزل ابنه إبراهيم المؤيد المطيرة . قالوا : والسر عند العرب السرور بعينه ، فمعنى هذا الاسم سرور من رأى ، ويجوز لك في إعرابه ما جاز في حضرموت وبعلبك . ووقع لفظ سامرا في شعر البحتري ممدوداً في قوله : * وتركته علماً بسامراء * ساكرة : مدينة من أعمال المنصورة على مقدار يومين من