نام کتاب : الفتوحات المكية نویسنده : إبن عربي جلد : 2 صفحه : 528
الحصول لما علم إن الله تعالى قد رتب أمورا واقتضى علمه أزلا أنه لا يكون كذا إلا بموضع كذا وبطالع كذا وبسبب كذا فلما حكم عليه هذا الإمكان وفقد قلبه في بعض المواطن عن وجود متقدم أولا عن وجود رحل عن ذلك الموطن رجاء حصول البغية هذا سبب اغترابهم عن الأوطان وأمثاله فإن بعضهم قد يفارق وطنه لما كان فيه من العزة فإذا رأى أنه قد زاد عزا بالزهد والتوبة أو لم يكن مذكورا فاشتهر بالتوبة والخير فأورثه عزا في قلوب الناس فوقع الإقبال عليه بالتعظيم فيفر ويغترب عن وطنه إلى مكان لا يعرف فيه لمعرفته بنفسه مع ربه فإن تعظيم الناس للشخص سم قاتل مؤثر فيه أثرا يؤديه إلى الهلاك وهذا أيضا من الأسباب المؤدية إلى مفارقة الموطن والاغتراب عن الأهل فحيث وجد قلبه مع الله أقام أخبرني شيخي أبو الحسين ابن الصائغ الزاهد المحدث بسبتة قال سمعت شيخنا أبا عبد الله محمد بن رزق رحمه الله في سياحة كنا معه فيها اقرأ عليه بعض أجزاء الحديث وكان صاحب رواية يقول مررت في سياحتي بمسجد خراب في فلاة من الأرض فقلت أدخل اركع فيه ركعتين فدخلته فوجدت قلبي فقعدت فيه سنتين فأين زمان ركعتين من سنتين فمطلوبهم بالغربة عن الأوطان وجود القلب مع الله فحيثما وجدوه قاموا في ذلك الموضع قال بعضهم كنت مارا إلى مكة فرأيت في الطريق شابا تحت شجرة وهو يصلي في البرية وحده فقلت له ألا تمشي إلى مكة فقال لي كنت أسير إلى مكة عام أول فلما مررت بهذه الشجرة وجدت قلبي فلي هنا سنة لا أبرح من هذا الموضع إلا إن فقدت قلبي قال فبعد سنة مررت بذلك الموضع وبتلك الشجرة فلم أجد الشاب فمشيت غير بعيد فإذا بالشاب قائم يصلي فسلمت عليه فعرفني فقلت له رأيتك قد تركت تلك السمرة فقال لي لما فقدت قلبي أخذت في طريقي الذي نويت أولا أريد مكة فانتهيت إلى هذا الموضع فوجدت قلبي فإنا به أيضا مقيم فقلت له من أين طعامك وشرابك قال من عنده يجيئني به في الوقت الذي يريد أن يغذيني قال فتركته وانصرفت وما أدري ما انتهى إليه أمره بعد ذلك فقد يطلبون بالغربة وجود قلوبهم مع الله وأما غربة العارفين عن أوطانهم فهي مفارقتهم لإمكانهم فإن الممكن وطنه الإمكان فيكشف له أنه الحق والحق ليس وطنه الإمكان فيفارق الممكن وطن إمكانه لهذا الشهود ولما كان الممكن في وطنه الذي هو العدم مع ثبوت عينه سمع قول الحق له كن فسارع إلى الوجود فكان ليرى موجدة فاغترب عن وطنه الذي هو العدم رغبة في شهود من قال له كن فلما فتح عينه أشهده الحق أشكاله من المحدثات ولم يشهد الحق الذي سارع إلى الوجود من أجله وفي هذه الحال قلت إذا ما بدا الكون الغريب لناظري * حننت إلى الأوطان حن الركائب يقول فأردت الرجوع إلى العدم فإني أقرب إلى الحق في حال اتصافي بالعدم مني إليه في حال اتصافي بالوجود لما في الوجود من الدعوى وطلب حالة الفناء عن الحق للبقاء بالحق هو أن يرجع إلى حالة العدم التي كان عليها فهذه غربة أيضا موجودة واقعة عن وطن بغير اختيار العبد ومن غربة العارفين بالله غربتهم عن صفاتهم عند وجودهم الحق عين صفاتهم وهذه غربة حقيقية فإن الصفة مضافة إليهم بكلام الله وهو الصادق فهم أهل صفة ولكن ما هي تلك الصفة وإلى من تضاف حقيقة فإن العالم يضاف إلى الله بأنه عبد الله كما إن الله مضاف إلى العالم فإنه رب العالمين فإضافة العبد مستندة إلى إضافة الحق فأول غربة اغتربناها وجودا حسيا عن وطننا غربتنا عن وطن القبضة عند الإشهاد بالربوبية لله علينا ثم عمرنا بطون الأمهات فكانت الأرحام وطننا فاغتربنا عنها بالولادة فكانت الدنيا وطننا واتخذنا فيها أوطانا فاغتربنا عنها بحالة تسمى سفر أو سياحة إلى أن اغتربنا عنها بالكلية إلى موطن يسمى البرزخ فعمرناه مدة الموت فكان وطننا ثم اغتربنا عنه بالبعث إلى أرض الساهرة فمنا من جعلها وطنا أعني القيامة ومنا من لم يجعله وطنا فإنه ظرف زماني والإنسان في تلك الأرض كالماشي في سفره بين المنزلتين ويتخذ بعد ذلك أحد الموطنين إما الجنة وإما النار فلا يخرج بعد ذلك ولا يغترب وهذه هي آخر الأوطان آخر الأوطان التي ينزلها الإنسان ليس بعدها وطن مع البقاء الأبدي وأما قولهم في الغربة إنها الاغتراب عن الحال من النفوذ فيه فتلك غربة أخرى وذلك أن أصحاب الأحوال لا شك أن لهم النفوذ والتحكم وبها يكون خرق العوائد لهم المشهورة في العالم فإذا اطلعوا على إن الحال لا أثر له فيما ظهر له من الفعل عند قيامه بهم فيما أعطاه الكشف لم يرضوا به فاغتربوا عنه وقالوا الوقوف معه وبال على صاحبه فيرون أن الغربة عنه غاية السعادة وأنه من أعظم
528
نام کتاب : الفتوحات المكية نویسنده : إبن عربي جلد : 2 صفحه : 528