صلاحه ، ولو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده . . ألا ترى أن الأمطار إذا توالت عفنت البقول والخضر واسترخت أبدان الحيوان وحصر الهواء فأحدث ضروبا من الأمراض . وفسدت الطرق والمسالك وأن الصحو إذا دام جفت الأرض ، واحترق النبات ، وغيض ماء العيون والأودية ، فأضر ذلك بالناس ، وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضروبا أخرى من الأمراض . . . فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب إعتدل الهواء ودفع كل واحد منهما عادية الأخر ، فصلحت الأشياء واستقامت . . فإن قال قائل : ولم لا يكون في شئ من ذلك مضرة البتة ؟ قيل له ليمض ذلك الإنسان ويؤلمه بعض الألم ، فيرعوي عن المعاصي ، فكما إن الإنسان إذا سقم بدنه احتاج إلى الأدوية المرة البشعة ليقوم طباعه ، ويصلح ما فسد منه ، كذلك إذا طغى واشتد ، احتاج إلى ما يمضه ويؤلمه ، ليرعوي ويقصر عن مساويه ، ويثبته على فيه حظه ورشده . . ولو أن ملكا من الملوك قسم في أهل مملكته قناطيرا [1] من ذهب وفضة ، ألم يكن سيعظم عندهم ويذهب له به الصوت ، فأين هذا من مطرة رواء يعم به البلاد ، ويزيد في الغلات أكثر من قناطير الذهب والفضة في أقاليم الأرض كلها . . أفلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها ، وأعظم النعمة على الناس فيها وهم عنها ساهمون ، وربما عاقت عن أحدهم حاجة لا قدر لها ، فيتذمر ويسخط إيثارا للخسيس قدره على العظيم نفعه ، جميلا محمودا لعاقبته وقلة معرفته [2] لعظيم الغناء والمنفعة فيها . ( مصالح نزول المطر على الأرض وأثر التدبير فيه ) تأمل نزوله على الأرض والتدبير في ذلك ، فإنه جعل ينحدر عليها من علو ليغشى ما غلظ وارتفع منها فيرويه ، ولو كان إنما يأتيها من بعض نواحيها لما
[1] القناطير جمع قنطار وهو المال الكثير أو وزن اختلف مقدار موزونه مع الأيام . [2] في الأصل المطبوع محمود العاقبة وقلة معرفة ، وما ذكرناه هو الأصح .