وتزجي السحاب من موضع إلى موضع ، ليعم نفعه ، حتى يستكشف فيمطر ، وتفضه حتى يستخف فيتفشى وتلقح الشجر ، وتسير السفن ، وترخى الأطعمة وتبرد الماء ، وتشب النار ، وتجفف الأشياء الندية ، وبالجملة إنها تحيي كل ما في الأرض . . . فلولا الريح لذوي النبات ، ولمات الحيوان ، وحمت الأشياء وفسدت . ( هيئة الأرض ) فكر يا مفضل فيما خلق الله عز وجل عليه الجواهر الأربعة [1] ليتسع ما يحتاج إليه منها . . فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها ، فلولا ذلك كيف كانت تتسع لمساكن الناس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم والعقاقير العظيمة والمعادن الجسيم غناؤها . ولعل من ينكر هذه الفلوات [2] الخاوية والقفار الموحشة . فيقول : ما المنفعة فيها ؟ فهي مأوى هذه الوحوش ومحالها ومراعيها ، ثم فيها بعد تنفس ، ومضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم ، فكم بيداء وكم فدفد [3] حالت قصورا وجنانا ، بانتقال الناس إليها وحلولهم فيها ، ولولا سعة الأرض وفسحتها لكان الناس كمن هو في حصار ضيق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا أحزنه أمر يضطره إلى الانتقال عنه .
[1] المراد بالجواهر الأربعة هي التراب والماء والهواء والنار ، والمعروف أن المفكر اليوناني إمبذوقليس ( 495 - 435 ) ق . م . قد رد الكون إلى تلك العناصر أو الجواهر الأربعة التي هي في رأيه لا تفتأ في اتصال وانفصال يكونان سببا في نشأة الأشياء واختلاف صفاتها تبعا للاختلاف في نسبة المزج بين العناصر . . ولا يخفى أن ما ذهب إليه إمبذوقليس هذا في التفريق بين صفات العناصر وصفات الأشياء التي تركت منها تباين ظاهر وتناقص واضح . [2] الفلوات جمع فلات وهي الصحراء الواسعة . [3] الفدفد : الفلاة والجمع فدافد .