والقطا والإوز والكراكي [1] والحمام وسباع الطير جميعا ، وكلها لا يرى منها إذا ماتت إلا الواحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع ، فإذا أحسوا بالموت كمنوا في مواضع خفية فيموتون فيها ، ولولا ذلك لامتلأت الصحارى منها حتى تفسد رائحة الهواء وتحدث الأمراض والوباء . فانظر إلى هذا بالذي يخلص إليه الناس ، وعملوه بالتمثيل [2] الأول الذي مثل لهم كيف جعل طبعا وأذكارا [3] في البهائم وغيرها ، ليسلم الناس من معرة [4] ما يحدث عليهم من الأمراض والفساد . ( الفطن التي جعلت في البهائم : الأيل والثعلب والدلفين ) فكر يا مفضل في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها ، بالطبع والخلقة ، لطفا من الله عز وجل لهم ، لئلا يخلو من نعمة جل وعز أحد من خلقه بعقل وروية ، فإن الأيل يأكل الحيات فيعطش عطشا شديدا فيمتنع عن شرب الماء ، خوفا من أن يدب السم في جسمه فيقتله ، ويقف على الغدير وهو مجهود عطشا ، فيعج عجيجا عاليا ، ولا يشرب منه ، ولو شرب لمات من ساعته . فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة ، من تحمل الظمأ الغالب الشديد ، خوفا من المضرة في الشرب ، وذلك مما لا يكاد الإنسان العاقل المميز يضبطه من نفسه .
[1] الكراكي جمع كركي - بضم فسكون فسكر - طائر كبير أغبر اللون طويل العنق والرجلين أبتر الذنب قليل اللحم . [2] المراد بالتمثيل ما ذكره الله تعالى في قصة قابيل . [3] في الأصل المطبوع ادكارا بالدال المهملة ، ولكن الأذكار أوضح وهو من قولهم ذكر الشئ : حفظه في ذهنه . [4] المعرة : الأمر القبيح والمساءة والإثم والأذى .