( حال المولود لو ولد فهما عاقلا وتعليل ذلك ) ولو كان المولود يولد فهما [1] عاقلا ، لأنكر العالم عند ولادته ولبقي حيرانا تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف ، وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطير ، إلى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم . واعتبر ذلك بأن من سبي بلد وهو عاقل ، يكون كالواله الحيران فلا يسرع إلى تعلم الكلام ، وقبول الأدب ، كما يسرع الذي سبي صغيرا غير عاقل ، ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة [2] إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصبا بالخرق مسجى [3] في المهد لأنه لا يستغني عن هذا كله . لرقة بدنه ورطوبته حين يولد ثم كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل فصار يخرج إلى الدنيا غبيا [4] غافلا عما فيه أهله ، فيلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة . ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا ، وشيئا بعد شئ ، وحالا بعد حال : حتى يألف الأشياء ، ويتمرن ويستمر عليها ، فيخرج من حد التأمل لها والحيرة فيها إلى التصرف ، والاضطرار إلى المعاش بعقله وحيلته ، وإلى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية ، وفي هذا أيضا وجوه أخر ، فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد ، وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبر ، والعطف عليهم ، عند
[1] الفهم - بفتح فكسر - السريع الفهم . [2] الغضاضة : هي الذلة والمنقصة - جمعها غضائض . [3] التسجية : هي التغطية بثوب يمد على الجسم . [4] على وزن فعيل - وهو القليل الفطنة .