تعالى ( إنّ الله يحب المحسنين ) ( إنّ الله يحبُّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين ) صريح في أنّ محبّته لهم لأجل إحسانهم وتوبتهم وطهارتهم لا لأجل أنّهم من آثاره ، ولو أُريد أنّ الاحسان والتوبة والطهارة من فعله وآثاره لرجع هذا إلى قول الأشاعرة ويتّسع دائرة المناقشة فليتأمّل . ( و لا أكملتك إلاّ فيمن أُحبّ ) دلّ على أنّ كمال العقل كأصله حباء من الله جلّ شأنه ولكن لكسب العبد وعنايته مدخل فيه كما يدلّ عليه قول موسى بن جعفر ( عليه السلام ) : « من أراد الغنى بلا مال ، وراحة القلب من الحسد ، والسلامة في الدين فليتضرّع إلى الله عزّ وجل في مسئلته بأن يكمل عقله ( 1 ) » ويرشد إليه التجربة فإنّ من نشأ في التعلّم وطهارة النفس وصرف القوّة العلميّة والعمليّة في تحصيل العلوم والأعمال والأخلاق المرضيّة ازداد عقله ضوءاً ونفسه نوراً يكاد يبصر ما تحت العرش وما تحت الثرى ، وتلك العناية التي هي من التوفيقات الربانية إنما يتوقّف على وجود أصل العقل لا على كماله فلا يلزم الدور . ( أما إني إيّاك آمر وإيّاك أنهى وإيّاك اُعاقب وإيّاك اُثيب ) « أما » حرف تنبيه يصدّر بها الكلام الذي لمضمونه خطر وعناية لتنبيه المخاطب وإيقاظه طلباً لاصغائه ، وتقديم المفعول للاختصاص فإنّ العقل وإن استشعر من الأمر بالاقبال والإدبار أنّه مخلوق يتوجّه إليه الأمر والنهي لكنّه استشعر أيضاً بأنّه مقارن مع مخلوق آخر فكأنّه غفل عن ذلك لشدّة شغفه بمخاطبة ربّه جلّ ذكره وتوهّم أنّ الأمر والنهي والثواب والعقاب يتوجّه إليه مع مشاركة الغير أو يتوجّه إلى الغير وحده لا إليه ، فأتى الله سبحانه بحرف التنبيه إيقاظاً له عن تلك الغفلة وإظهاراً بأنّ الكامل لا بدّ من أن لا يصير مغروراً بكماله بل هو دائماً يحتاج إلى تنبيه وتذكير وبطريق الحصر دفعاً لما عرض له من التوهّم وإشعاراً بأنّ القابل للخطاب هو دون غيره وحصر الثواب والعقاب فيه باعتبار أنّه بذاته ، أو بواسطة قوّة ورويّة فيه منشأ للطاعة والعرفان ومبدء للمعصية والطغيان في مواد الإنسان ومستحقٌّ لهما في ضمن تلك الموادّ . فلا يدلّ الحديث على ثبوتهما له مجرداً عنها أصلا فضلا عن أن يدلّ على نفي المعاد الجسماني . وانطباق معنى الحديث على العقل بالمعنى الأوَّل وهو النفس باعتبار التجرّد ظاهر ، وبالمعنى الثاني وهو حالة النفس وقوّتها الدّاعية إلى الخيرات في المراتب المذكورة يحتاج في قوله « إيّاك أعاقب وإيّاك اُثيب » إلى تكلّف بأن يقال معناه بك أعاقب وبك اُثيبت على سبيل التوسّع ، لأنّ المعاقب والمثاب هو النفس ، أو يقال لمّا كانت تلك القوّة منشأ تكليف النفس نسب الثواب والعقاب إليها على سبيل التجوُّز والمعنى الأخير وهوا لجوهر النوراني المفارق عن المادّة في ذاته وفعله يحتاج في هذا القول وفي قوله : « ولا أكملتك إلاّ فيمن أُحبّ » إلى تكلّف بأن يقال المراد بإكماله أكمال إشراقاته على
1 - جزء من الخبر الّذي يأتي في هذا الباب تحت رقم 12 .