نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 28
وإن قسط علي بن أبي طالب من الذوق الفني ، أو الحس الجمالي ، لمما يندر وجوده ، وذوقه هذا كان المقياس الطبيعي الضابط للطبع الأدبي عنده . أما طبعه هذا فهو طبع ذوي الموهبة والأصالة الذين يرون فيشعرون ويدركون فتنطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم وتنكشف عنه مداركهم انطلاقا عفويا . لذلك تميز أدب علي بالصدق كما تميزت به حياته . وما الصدق إلا ميزة الفن الأولى ومقياس الأسلوب الذي لا يخادع . وإن شروط البلاغة ، التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال ، لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعلي بن أبي طالب . فإنشاؤه مثل أعلى لهذه البلاغة ، بعد القرآن . فهو موجز على وضوح ، قوي جياش ، تام الانسجام لما بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من إئتلاف ، حلو الرنة في الأذن موسيقي الوقع . وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي الشدة . ويشتد ويعنف في غيرها من المواقف ، ولا سيما ساعة يكون القول في المنافقين والمراوغين وطلاب الدنيا على حساب الفقراء والمستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة . فأسلوب علي صريح كقلبه وذهنه ، صادق كطويته ، فلا عجب أن يكون نهجا للبلاغة . وقد بلغ أسلوب علي من الصدق حدا ترفع به حتى السجع عن الصنعة والتكلف . فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجعة ، أبعد ما يكون عن الصنعة ، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر . فانظر إلى هذا الكلام المسجع وإلى مقدار ما فيه من سلامة الطبع : ( يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ، ومعاصي العباد في الخلوات ، واختلاف النينان في البحار الغامرات ، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات ! ) أو إلى هذا القول من إحدى خطبه : ( وكذلك السماء والهواء ، والرياح والماء ، فانظر إلى الشمس والقمر ، والنبات والشجر ، والماء والحجر ، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجر هذه البحار ، وكثرة الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرق هذه اللغات ، والألسن المختلفات الخ . . ) وأوصيك خيرا بهذا السجع الجاري مع الطبع : ( ثم زينها بزينة الكواكب ، وضياء الثواقب ( 1 ) وأجرى فيها سراجا مستطيرا ( 2 ) وقمرا
1 - الثواقب : المنيرة المشرقة . 2 - سراجا مستطيرا : منتشر الضياء . ويريد به الشمس .
28
نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 28