حتى نزلنا مكة ، ولقد رأيت طائرين قد ألفاه لا يفارقانه ، فلما كان عند رجوعنا ونزلنا سمعتهما يقولان : انزل في حفظ الله وكنفه ، والله لقد همت بك اليهود ليغتالوك فلو فعلوا لمسحت أعينهم ، ثم غابا [1] . وروي عن ابن عباس ، عن أبيه ، عن أبي طالب أن بحيرا الراهب قال للنبي ( عليه السلام ) : يا من بهاء نور الدنيا من نوره ، يا من بذكره تعمر المساجد ، كأني بك وقد قدت الأجناد والخيل وقد تبعك العرب والعجم طوعا وكرها ، وكأن اللات والعزى قد كسرتهما ، وقد صار البيت العتيق لا يملكه غيرك تضع مفاتيحه حيث تريد ، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه ، وأنت مفتاح الجنان ، ومعك الذبح الأكبر وهلاك الأصنام ، أنت الذي لا تقوم الساعة حتى تدخل الملوك كلها في دينك صاغرة قميئة [2] . فلم يزل يقبل رجليه مرة ويديه مرة ويقول : إن أدركت زمانك لأضربن بين يديك بالسيف ضرب الزند بالزند ، أنت سيد ولد آدم ، وسيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وخاتم النبيين ، والله لقد بكت البيع والأصنام والشياطين فهي باكية إلى يوم القيامة . أنت دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، أنت المقدس المطهر من أنجاس الجاهلية . وقال لأبي طالب : أرى لك أن ترده إلى بلده عن هذا الوجه ، فإنه ما بقي على وجه الأرض يهودي ولا نصراني ولا صاحب كتاب إلا وقد علم بولادة هذا الغلام ، ولئن عرفوا منه ما عرفت أنا منه لابتغوه شرا ، أكثر ذلك هؤلاء اليهود . فقال أبو طالب : ولم ذاك ؟ قال : لأنه كائن لابن أخيك - هذا - النبوة والرسالة ، ويأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران وعيسى بن مريم . قال أبو طالب : كلا لم يكن الله ليضيعه . قال : ثم خرجنا إلى الشام [3] .
[1] كتاب العدد ( مخطوط ) . [2] قميئة : أي ذليلة . [3] كمال الدين وتمام النعمة : ج 1 ص 185 - 186 ذيل ح 33 .