لي ، فقال معاوية : والله لقد هممت أن أقتلك ، فقال : لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا ، ولأدخلك به في الآخرة النار ، قال : ثم خرج عبد الرحمن بن أبي بكر ، وبقي معاوية يومه ذلك يعطي الخواص ، ويعصى مذمة الناس [1] . فلما كان صبيحة اليوم الثاني ، أمر بفراش فوضع له ، وسويت مقاعد الخاصة حوله وتلقاءه من أهله ، ثم خرج وعليه حلة يمانية ، وعمامة دكناء ، وقد أسبل طرفها بين كتفيه ، وقد تغلى [2] وتعطر ، فقعد على سريره ، وأجلس كتابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن قرب ، ثم أرسل إلى الحسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، فسبق ابن عباس فلما دخل وسلم أقعده في الفراش عن يساره ، فحادثه مليا ، ثم قال : يا بن عباس لقد وفر الله حظكم من مجاورة هذا القبر الشريف ، ودار الرسول عليه الصلاة والسلام . فقال ابن عباس ، نعم أصلح الله أمير المؤمنين ، وحظنا من القناعة بالبعض ، والتجافي عن الكل أوفر ، فجعل معاوية يحدثه ويحيد به عن طريق المجاوبة ، ويعدل إلى ذكر الأعمال على اختلاف الغرائز والطبائع ، حتى أقبل الحسين بن علي ، فلما رآه معاوية جمع له وسادة كانت على يمينه ، فدخل الحسين وسلم ، فأشار إليه ، فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم ، فأخبره ، ثم سكت . قال : ثم ابتدأ معاوية فقال : أما بعد ، فالحمد لله ولي النعم ، ومنزل النقم ، وأشهد أن إله إلا الله المتعالي عما يقول الملحدون علوا كبيرا ، وأن محمدا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة ، لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد . فأدى عن الله ، وصدع [3] بأمره ، وصبر على الأذى في جنبه ، حتى وضح دين الله ، وعز أولياؤه ، وقمع المشركون ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، فمضى صلوات الله عليه ، وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما سخر له ، زهادة واختيارا لله ، وأنفة واقتدارا على الصبر ، بغيا لما يدوم ويبقى ، فهذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم خلفه رجلان
[1] لم يذكر عبد الله بن عباس فكما لا حظنا فقد ذكر أنه استدعى عبد الرحمن بن أبي بكر حيث لم يرد أنه كاتبه في جملة من كاتب من النفر المتقدمين . [2] تغلى أي تضمخ بالغالية ، من أنواع المسك . [3] صدع بأمره : أظهره وبينه .