وكان في الوقت نفسه خصام يتفاقم يوما بعد يوم بين الكتبة وهؤلاء الممثلين للطبقة الكهنوتية . وكان ذلك الخصام مظهرا من مظاهر الخلاف بين الهيكل والمجمع ، أي بين الصدوقيين والفريسيين . وكانت هاتان النزعتان الكبيرتان تؤلفان ما جرت العادة أن يقال له اليهودية الرسمية . ورأى الصدوقيون سلطتهم عرضة لمنازعة شديدة منذ زمن يسوع . فقد كانوا محافظين وأنصارا لسيادة النظام في كل وجه من الوجوه ، وإن كان ذلك النظام رومانيا ، لأنه يضمن لهم جل دخلهم . ولذلك كان الشعب يتهمهم اتهاما جديا بالتعاون ، بل بالتواطؤ ، مع حكومة الاحتلال الوثنية . ومهما يكن من أمر ، فقد فقدوا كل نفوذ عند الشعب ، وكان الشعب يفضل عليهم خصومهم الفريسيين وقد رأى فيهم مواطنين مخلصين للرب والشريعة ، سليلي الحسيديم المشهورين الذين اشتركوا في الثورة على انطيوخس ابيفانيوس في أيام المكابيين . وأدى خراب الهيكل السنة 70 إلى خراب الصدوقيين ، وكان مصيرهم مرتبطا به ارتباطا تاما . وقد مثلت منذ ذلك الوقت النزعة الفريسية وحدها اليهودية الرسمية . وكان في زمن يسوع ، على هامش هذين " الحزبين " ، عدة شيع لبعضها فائدة كبيرة لمعرفة البيئة التي نشأت فيها المسيحية . وليس لدينا عن شيعة الغيورين سوى أخبار جزئية يعسر تفسيرها . يبدو أنها كانت جناحا متطرفا لحزب الفريسيين ، وكان أعضاؤها مصممين على فرض مراعاة أحكام الشريعة بجميع الوسائل حتى بالقوة منها . وقد وصفوا أحيانا بقطاع طرق رعاع ، في حين أنهم كانوا في حقيقتهم من المتعصبين الدينيين الذين يعارضون معارضة مطلقة رأي سلطة لا تصدر من الشريعة نفسها . لذلك لم يكونوا يترددون في أن يعاقبوا بالموت كل من كان مذنبا في نظرهم بمخالفات كبيرة للشريعة ، ولا سيما الذين كانوا يعاونون حكومة الاحتلال الوثنية . وربما كان بعض تلاميذ يسوع ، بل بولس نفسه ، قبل أن يصيروا مسيحيين ، على صلة بشيعة الغيورين . وكان هناك الاسينيون وكانوا في هامش الحزبين المذكورين على قدر أبعد من الغيورين . وقد تحسنت معرفتنا للاسينيين منذ اكتشاف الكتب المخطوطة في قمران على البحر الميت . وكان أكثرهم من الرهبان ولكن كان بعضهم يقيمون في خارج دير قمران المركزي ويؤثرون تأثيرا كبيرا في سكان فلسطين . كان الاسينيون أعداء الدة للسلطات اليهودية القائمة ، ولا سيما لعظيم الكهنة . كانوا يهود متشددين جدا ، ومع ذلك فقد تقبلوا كثير من الأفكار الأجنبية وكيفوها وفقا لمذهبهم اللاهوتي . ولا شك أنهم تأثروا بمبادئ إيرانية فأنشأوا عقيدة ثنائية صريحة جدا ، مبنية على التناقض التام بين روحين أو قوتين إحداهما للخير والأخرى للشر ، تتحاربان في معركة لا رحمة فيها حتى اليوم الأخير وفيه يشاهد النصر النهائي يحرزه أمير النور على ملاك الظلام . لا ذكر للأسينيين في العهد الجديد ، وليس فيه ما يدل على تأثير مباشر لعقيدة الأسينيين في المسيحية . غير أن أناسا مثل يوحنا المعمدان ويسوع والتلاميذ الأولون عاشوا ، وهم إلى بيئة " الشيع " اليهودية في القرن الأول أقرب منهم إلى بيئة اليهودية الرسمية . وكانت هذه البيئات كلها ، على قدر ما يتيسر لنا الاطلاع على الأمر ، تميل إلى آراء الأسينيين على درجات متفاوتة . فليس من المستحيل أن تكون المسيحية في أول نشأتها قد أفسحت قليلا في المجال لتلك الآراء وأنه ساد الجماعة المسيحية في