وفي ( نهج البلاغة ) : أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمدا ، نذيرا للعالمين ومهيمنا على المرسلين ، فلما مضى ( عليه السلام ) تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فوالله ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي أن العرب تزيح هذا الأمر من بعده عن أهل بيته ، ولا أنهم منحوه عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان ( أبي بكر ) يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما ، أو هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ( ولايتكم ) التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول السراب أو كما يتقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى راح الباطل ، وزهق واطمأن الدين وتنهنه ، ( إنتهى ) [1] . وأنه ( عليه السلام ) كان يكره الاختلاف ما لم يجتمع الناس عليه ، وينقادوا لحكمه ، كما في البخاري عن عبيدة عن علي قال : اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة ، أو أموت كما مات أصحابي [2] . وفي ( الفتح ) قلت : وقد وقعت في رواية حماد بن زيد أخرجها ابن المنذر عن علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم عنه وعنده قال لي عبيدة : بعث إلي علي وإلى شريح فقال : إني أبغض الاختلاف ، فاقضوا كما كنتم تقضون ، فذكره إلى قوله وأصحابي قال : فقتل علي قبل أن يكون جماعة . قوله " فأني أكره الاختلاف " أي الذي يؤدي ، قال ابن التين : يعني مخالفة أبي بكر ، وعمر . وقال غيره : المراد المخالفة التي تؤدي إلى النزاع والفتنة ، ويؤيده قوله بعد ذلك حتى يكون الناس جماعة . وفي رواية الكشميهني : حتى يكون للناس جماعة . وفي البخاري : قال عمر في الخطبة : ثم أنه بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلانا فلا يغتررن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها . ( ثم قال ) وخالف عنا علي ، والزبير ومن معهما ( ثم قال ) : فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات حتى فرقت ( أي خفت ) من الاختلاف ، فقلت أبسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته [3] . وفي ( الفتح ) قوله : كانت كذلك الفلتة ، الليلة التي يشك فيها هل هي من رجب أو شعبان ، وهل من محرم ، أو صفر ، قوله " وقى الله شرها " أي وقاهم ما في العجلة غالبا من الشر [4] . وقال الداودي : معنى قوله فلتة إنها وقعت من غير مشورة مع جميع من كان ينبغي أن يشاور ، وقال ابن حبان : معنى قوله كانت فلتة أن ابتداءها كان من غير ملأ كثير ، قوله : و ( خالف عنا علي والزبير ) في رواية مالك ، ومعمر وأن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله ، وكذا في رواية سفيان لكن قال العباس بدل الزبير ( ثم قال ) قال الداودي فيما نقله ابن التين عنه حيث أطلق أنه لم يكن مع أبي بكر حينئذ من المهاجرين إلا عمر ، وأبو عبيدة .
[1] نهج البلاغة ، ص 237 ( طبع طهران ) . [2] البخاري ، ج 3 ، ص 387 . [3] البخاري ، ج 6 ، ص 374 . [4] وفي شرح نهج البلاغة للعلامة ابن أبي الحديد ، ج 1 ، ص 132 ( طبع مصر ) إن صاحب " الصحاح " ذكر أن ( الفلتة ) هو الأمر الذي يعمل فجأة من غير تردد ، ولا تدبر . وهكذا كانت بيعة أبي بكر لأن الأمر لم يكن شورى بين المسلمين ، وإنما وقعت بغتة لم تمحص فيها الآراء ، ولم يتناظر فيها الرجال ، وكانت كالشئ المستلب المنتهب .