أَحَدُهَا : أَنَّ كَثِيراً مِنْ الْمَرْضَى ، أَوْ أَكْثَرَ الْمَرْضَى يُشْفَوْنَ بِلَا تَدَاوٍ ، لَا سِيَّمَا فِي أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْقُرَى ، وَالسَّاكِنِينَ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ يَشْفِيهِمْ اللَّهُ بِمَا خَلَقَ فِيهِمْ مِنْ الْقُوَى الْمَطْبُوعَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ ، الرَّافِعَةِ لِلْمَرَضِ ، وَفِيمَا يُيَسِّرُهُ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ حَرَكَةٍ وَعَمَلٍ أَوْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ أَوْ رُقْيَةٍ نَافِعَةٍ ، أَوْ قُوَّةٍ لِلْقَلْبِ ، وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ غَيْرِ الدَّوَاءِ ، وَأَمَّا الْأَكْلُ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ ، وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أَبْدَانَ الْحَيَوَانِ تَقُومُ إلَّا بِالْغِذَاءِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَمَاتَ ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ التَّدَاوِيَ لَيْسَ مِنْ الضَّرُورَةِ فِي شَيْءٍ .وَثَانِيهَا : أَنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَاجِبٌ .قَالَ مَسْرُوقٌ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ ، فَلَمْ يَأْكُلْ ، فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ وَالتَّدَاوِي غَيْرُ وَاجِبٍ " { وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ خَصَمَتْهُ السُّنَّةُ فِي الْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ بِالْعَافِيَةِ ، فَاخْتَارَتْ الْبَلَاءَ وَالْجَنَّةَ } ، وَلَوْ كَانَ رَفْعُ الْمَرَضِ وَاجِباً لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ مَوْضِعٌ ، كَدَفْعِ الْجُوعِ ، وَفِي دُعَائِهِ لِأُبَيٍّ بِالْحُمَّى ، وَفِي اخْتِيَارِهِ الْحُمَّى لِأَهْلِ قُبَاءَ ، وَفِي دُعَائِهِ بِفَنَاءِ أُمَّتِهِ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ ، وَفِي نَهْيِهِ عَنْ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ ، وَخَصَمَهُ حَالُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُبْتَلِينَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْبَلَاءِ ، حِينَ لَمْ يَتَعَاطَوْا الْأَسْبَابَ الدَّافِعَةَ لَهُ ، مِثْلُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ ، وَخَصَمَهُ حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ .فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَالُوا لَهُ : أَلَا نَدْعُو لَك الطَّبِيبَ ، قَالَ : قَدْ رَآنِي ، قَالُوا : فَمَا قَالَ لَك ؟قَالَ : إنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ .وَمِثْلُ هَذَا وَنَحْوِهِ يُرْوَى عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ الْمُخْبِتِ الْمُنِيبِ ، الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْكُوفِيِّينَ أَوْ كَأَفْضَلِهِمْ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الْهَادِي الْمَهْدِيّ ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصُونَ عَدَداً ، وَلَسْت أَعْلَمُ سَالِفاً أَوْجَبَ التَّدَاوِي ، وَإِنَّمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ يُفَضِّلُ تَرْكَهُ تَفَضُّلاً ، وَاخْتِيَاراً لِمَا اخْتَارَ اللَّهُ ، وَرِضًى بِهِ ، وَتَسْلِيماً لَهُ ، وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُوجِبُهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّهُ ، وَيُرَجِّحُهُ كَطَرِيقَةِ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ ، اسْتِمْسَاكاً لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ ، وَجَعَلَهُ مِنْ سُنَنِهِ فِي عِبَادِهِ .