إلى سبب تنبثق عنه ، وهذا السبب هو الواقع الموضوعي . وهكذا نستطيع ان نبرهن على موضوعية الحس والتجربة بمبدأ العلية . فهل يمكن للماركسية ان تتخذ هذا الأسلوب ؟ طبعا لا ، وذلك : أولا : لأنها لا تؤمن بمبادئ ضرورية عقلية ، فليس مبدأ العلية في عرفها الا مبدأ تجريبيا تدل عليه التجربة ، فلا يصح أن يعتبر أساسا لصدق التجربة وموضوعيتها . وثانيا : ان الديالكتيك يفسر تطورات المادة وحوادثها بالتناقضات المحتواة في داخلها . وليست الحوادث الطبيعية في تفسيره محتاجة إلى سبب خارجي ، كما سندرس ذلك بكل تفصيل في المسألة الثانية . فإذا كان هذا التفسير الديالكتيكي كافيا لتبرير وجود الحوادث الطبيعية ، فلماذا نذهب بعيدا ؟ ولماذا نضطر إلى افتراض سبب خارجي وواقع موضوعي لكل ما يثور في نفوسنا من ادراك ؟ بل يصبح من الجائز ان تقول المثالية في ظواهر الادراك والحس ما قاله الديالكتيك عن الطبيعة تماما ، ويزعم ان هذه الظواهر في حدوثها وتعاقبها محكومة لقانون نقض النقض ، الذي يضع رصيد التغير والتطور في المحتوى الداخلي . وبهذا نعرف ان الديالكتيك لا يحجبنا عن سبب خارج الطبيعة فحسب ، بل يحجبنا بالتالي عن هذه الطبيعة بالذات ، وعن كل شيء خارج دنيا الشعور والادراك [1] .
[1] وقد جاء في كلام انجلز السابق التأكيد على ناحية القيمة الموضوعية لخلق ظاهرة وانشائها ، وان في ذلك الرد الحاسم على النزعات المثالية . ولا أظن هذا التأكيد حين يصدر من المدرسة الماركسية ينطوي على معنى فلسفي خاص ، وان أمكن للباحث الفلسفي ان يصوغ من ذلك دليلا خاصا على اثبات أن الواقع الموضوعي يرتكز على العلم الحضوري نظرا إلى ان الفاعل يعلم بآثاره ، وما يخلق علما حضوريا ، والعلم الحضوري بشيء هو نفس وجوده الموضوعي . فالانسان اذن يتصل بالواقع الموضوعي لما يعلمه علما حضوريا . فالمثالية إذا أسقطت من حساب المعرفة الموضوعية العلم الحصولي الذي لا نتصل فيه الا بأفكارنا ، كفى للواقعية العلم الحضوري . ولكن هذا الدليل يقوم على فهم مغلوط للعلم الحضوري ، فان أساس معرفتنا للأشياء انما هو العلم الحصولي . واما العلم الحضوري فهو لا يعني أكثر من حضور المعلوم الواقعي لدى العالم ، ولذلك كان كل انسان يعلم بنفسه علما حضوريا ، مع ان كثيرا من الناس انكر وجود النفس . ولا تتسع حدودنا الخاصة في هذه الدراسة للإفاضة في هذه الناحية .