الظواهر الاجتماعية تنشأ عن الوضع الاقتصادي وتتطور تبعا لتطوره . ففي بريطانيا مثلا حينما تحوّل وضعها الاقتصادي من الاقطاع إلى الرأسمالية وحلت الطاحونة البخارية محل الطاحونة الهوائية تبدلت جميع أوضاعها الاجتماعية وتكيفت وفقا للحالة الاقتصادية الجديدة . ومن الطبيعي للمادية التاريخية ، بعد ان آمنت بهذا ، أن تربط المعرفة الانسانية عموما بالوضع الاقتصادي أيضا بوصفها جزءا من الكيان الاجتماعي الذي يرتكز كله على العامل الاقتصادي ، ولذلك نجد أنها تؤكد على ان المعرفة الانسانية ليست وليدة النشاط الوظيفي للدماغ فحسب ، وانما يكمن سببها الأصيل في الوضع الاقتصادي ، ففكر الانسان انعكاس عقلي للأوضاع الاقتصادية ، وما ينشأ عنها من علاقات وهو ينمو ويتطور طبقا لتلك الأوضاع والعلاقات . ومن اليسير ان نلاحظ هنا أن القوى الاقتصادية احتلت في المادية التاريخية موضع العناصر اللاشعورية من الغرائز والشهوات في نظرية فرويد ، فبينما كان الفكر عند فرويد تعبيرا حتميا عن متطلبات الغرائز والشهوات المكتنزة يصبح في رأي المادية التاريخية تعبيرا حتميا عن متطلبات القوى الاقتصادية والوضع الاقتصادي العام . والنتيجة واحدة في الحالين وهي انعدام الثقة بالمعرفة وفقدانها لقيمتها لأنها أداة لتنفيذ متطلبات قوة صارمة مسيطرة على التفكير هي قوة اللا شعور أو قوة الوضع الاقتصادي ، ولا يمكننا أن نعرف ما إذا كان الوضع الاقتصادي يملي في عقولنا الحقيقة أو ضدها ، وحتى إذا وجدت هذه المعرفة فهي بدورها أيضا تعبير جديد عن متطلبات الوضع الاقتصادي التي لم نعرف بعد كيف نثق بتطابقها مع الواقع . وبهذا نعرف ان مذهب الماركسية في التاريخ كان يفرض عليها الشك . غير أنها لم تخضع للشك ، وأعلنت في فلسفتها عن ايمانها بالمعرفة وقيمتها . وسوف نعرض فيما بعد لنظرية المعرفة عند الماركسية على الصعيد الفلسفي ، وانما نريد أن نشير هنا إلى ان النتائج المحتومة للمذهب الماركسي في التاريخ - أي المادية التاريخية - تناقض نظرية الماركسية الفلسفية عن المعرفة