فجعلت أتبع مأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأطأ ذكره ، حتى انتهيت إلى العرج [1] . قال ابن أبي الحديد : وروى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي ، قال : لم يعلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحدا من المسلمين ما كان عزم عليه من الهجرة إلا علي بن أبي طالب وأبا بكر بن أبي قحافة . أما علي فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبره بخروجه ، وأمره أن يبيت على فراشه [2] ، يخادع المشركين عنه ليروا أنه لم يبرح ، فلا يطلبوه حتى
[1] نهج البلاغة ص 256 رقم الكلام : 236 . [2] روى ابن البطريق في الفصل الثلاثين من العمدة [ ص 237 ] من تفسير الثعلبي ، في تفسير قوله تعالى * ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ) * بإسناده قال : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بمكة لقضاء ديونه ، وبرد الودائع التي كانت عنده ، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه ، فقال له : يا علي اتشح ببردي الحضرمي الأخضر ، ثم نم على فراشي ، فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله عز وجل ، ففعل ذلك ، فأوحى الله عز وجل إلى جبرئيل وميكائيل : أني قد آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة ، فاختار كلاهما الحياة . فأوحى الله عز وجل إليهما : ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب ؟ آخيت بينه وبين محمد ، فنام على فراشه ، يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه ، فنزلا فكان جبرئيل ( عليه السلام ) عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، فقال جبرئيل : بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب ؟ يباهي الله بك الملائكة ، فأنزل الله تعالى على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب * ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ) * . قال : قال ابن عباس : نزلت في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حين هرب النبي ( صلى الله عليه وآله ) من المشركين إلى الغار مع أبي بكر ، ونام علي ( عليه السلام ) على فراش النبي ( صلى الله عليه وآله ) . وروى من مسند ابن حنبل ، بإسناده عن عمرو بن ميمون ، قال : إني لجالس إلى ابن عباس ، إلى قوله : وشرى علي ( عليه السلام ) نفسه لبس ثوب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم نام على مكانه . فإن قلت : نزول الآية في أمر المبيت ، ومباهاة الله تعالى الملائكة ، والقول بأنه يفديه بنفسه ، يدل على عدم علم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعدم قتل المشركين إياه ، وعلى غاية عظمته عند الله تعالى ، فكيف يجتمع هذه الأمور مع قوله ( صلى الله عليه وآله ) " فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله " ومع الأمر بقضاء ديونه ورد ودائعه الدالين على الأمن من القتل ؟ قلت : الأمن إنما يلزم لو علم ( عليه السلام ) بكون ذكر المشيئة للتبرك لا للتعليق ، أو علم بكون الأمر بالقضاء والرد غير مشروط بالحياة بحسب القصد ، فلعله ( عليه السلام ) جوز كون المشيئة تعليقية ، وكون الأمر بالشيئين مشروطا بالحياة بحسب المعنى ، وهو غير بعيد في الأوامر المطلقة لو لم يدع الظهور عند صدورها من الحكيم . وبالجملة نزول الآية والمباهاة والقول بفداء النفس ، دالة على التجويز دلالة واضحة ، ولا منافاة بينه وبين ما يتوهم منافاته له . وفي خصوص قوله ( صلى الله عليه وآله ) " فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله " محمل آخر ، وهو أنه لا يصل إليك ما يضرك ولا ترضيه ، بل كلما يصل إليك فهو خير لك ولا كراهة لك عنه ، لا أنه لا يصل إليك ألم بدني ومكروه جسماني ، ولا يبعد تأييد هذا الاحتمال بما ذكر في الأصل ، ثم قال بعضهم لبعض : ارموه بالحجارة ، فرموه ، فجعل علي يتضور ويتقلب ويتأوه تأوها خفيا . فإن قلت : على تقدير حصول الأمن له ( عليه السلام ) بما ذكر أو بغيره أو بهما ، هل يمكن توجيه كمال فضيلة المبيت المنكشف بالآية وغيرها ؟ قلت : نعم لأنه ( عليه السلام ) يمكن أن يكون عند البيتوتة في غاية الرضا والتسليم بفداء نفسه ، بل الالتذاذ به على وجه يستحق المدائح المذكورة وإن علم سلامته " منه " .