مجال لامتثالهما معاً ، لأن الحكم الشرعي ينطلق من المصلحة الأساسية للإنسان ، من خلال ما ثبت لدينا من أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها . فإذا رأينا المصلحة الأهم في جانب ، فمعنى ذلك أن الحكم الذي لا يصل الموقف فيه إلى هذا المستوى من الأهمية ، يفقد معناه في حدود ذلك ، وتكون النتيجة تقييد فاعلية الحكم الشرعي وحركته في غير هذا المجال . وهذا ما واجهناه في الآيات السابقة التي تتحدث عن القتال في المسجد الحرام فيما إذا قاتل المشركون المسلمين فيه ، وفي هذه الآية التي تتحدث عن القتال في الشهر الحرام في صور مبرراته الإسلامية . فلو دار الأمر بين أن تهتك حرمة الشهر أو المكان ، وبين أن تهتك حرمة الإسلام ويسقط صريعاً أو مهزوماً أمام ضربات الكفر ، فإن من الممكن ان نتجاوز حرمة الشهر والمكان لمصلحة حرمة الإسلام العليا ؛ بل قد يجب ذلك في بعض المجالات ، إذ وإن كانت حرمتهما جزءاً من التشريع الإسلامي ، لكن لا يمكن أن تتقدم على سلامة الإسلام نفسه . وهذا ما يعبر عنه علماء الأصول ، بحالة ( التزاحم بين الحكمين ) . وقد نجد هذه القاعدة متمثلة في أكثر من مسألٍة فقهيةٍ في نطاق المحرمات الشرعية ، التي جاءت الرخصة فيها في بعض مواردها ، وقد تعددت نماذجها حتى أصبحت بمثابة ( القاعدة الثانوية الاستثنائية ) ؛ حتى قال الأصوليون : ( ما من عام إلا وقد خُصَّ ) ، مما يوحي بأن التخصيصات الواردة في العموميّات القرآنية والنبوية تحولت إلى ظاهرة شرعية من خلال تزاحم المصالح العامة ، والتي يعبّر عنها بالخاص في دائرة الخصوصيات الحاكمة على العنوان العام . وهذا ما نراه في الغيبة التي جاء الاستثناء فيها في قوله تعالى : ( لا يُحِبُ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ القَولِ إِلا من ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سِمَيعاً عَلِيماً ( ( النساء / 148 ) فجعل حالة الظلم استثناء من حرمة الغيبة التي جاء فيها قوله تعالى : ( يا أيها الذين أمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ، إن بعض الظن إثم ، ولا تجسّسُوا ، ولا يغتب بعضكم بعضاً ، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ؟ ! واتقوا الله إن الله تواب رحيم ( ( الحجرات / 12 ) فأطلق للمظلوم الحرية في أن يتحدث عن ظالمه بالسوء من أجل الضغط عليه لرفع ظلمه ، باعتبار أن مصلحة رفع الظلم عن المظلوم أكبر من مفسدة الغيبة في إظهار عيب الظالم ؛ كما جاء الاستثناء في مقام النصيحة للمؤمنين ، لأن إغلاق باب النصيحة في التحدث عن عيوب الإنسان الذي قد يقع الناس في مشاكل كثيرة نتيجة كتمان عيوبه ، أكثر من مشاكل الحديث السلبي عنه ؛ وفي مقام تجاهر الإنسان