وكيف لا يكون أمياً من يشطب على سلوكية الدين وقيمه وحدوده ، وسلوكية العقل العملي كلها ! فلا قيم عنده ولا سمو ، ولا حلال ولا حرام ، ولا طاهر ولا نجس ، ولا عيب ولا غيرة ، ولا ما يليق ولا يليق ، ولا رادع عن هوى ولا وازع ! تذكروا صفات البداوة والجاهلية التي جاء الإسلام لإزالتها ، فستجدون أكثرها موجوداً في أحدث صالوناتهم وأجمل كلماتهم ! إنهم أهل الجاهلية الثانية التي حذر الله تعالى منها بقوله : ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى ) ! ولا شئ يخرج الإنسان من البداوة والجاهلية إلا التدين ، فهو وحده الذي يستطيع أن يفجر في الإنسان الينابيع الجمالية الصحيحة المتكاملة ، وتلك هي حالة التمدن الإنسانية ، التي تعني تكامل الإنسان ، لا تسافله ! . الأمر الرابع قد يعترض على هذا التحليل بأن المسيحية وإن دخلت إلى أوروبا ضيفةً على يد الإمبراطور قسطنطين في مطلع القرن الرابع الميلادي ، إلا أنها صارت صاحبة بيت بعد قرون ، وقد زاد تأثيرها في الشعوب الأوربية حتى حكمت أوروبا طوال ما عرف بالعصور الوسطى ، أو عصور التسلط الكنسي والتخلف . والجواب : أن الذي حدث العصور الوسطى أن حكام أوروبا أفرطوا في استغلال المسيحية الوافدة ، فالذي حكم ليس هو المسيحية ولا كنيستها ، بل المادية الغربية باسم المسيحية والكنيسة ، ولم يكن ذلك بفعل تأثير المسيحية في أنفسهم أو شعوبهم ! بل بتسخير الحكام الماديين للمسيحية المسكينة ! إن الذين حكموا باسم المسيحية في القرون الوسطى ، هم نفس الماديين الذين قاموا بالثورة عليها وتصحيح خطئهم وتقنين حياة المسيحية في صومعتها . ولا يتسع المجال لتفصيل ذلك . * *