أجل ، إن هذه المحاسبة الرياضية التي يجريها العقل إذا هو شاهد النظام السائد في الكون ، تدفعه إلى الحكم بأن هناك علة عاقلة اختارت هذه الصورة من بين تلك الصور الهائلة بقصد وإرادة ، وجمعت تلك الشرائط اللازمة بهذا الشكل المناسب للحياة [1] . وبهذا يبقى برهان النظم قويا صامدا سليما عن أي نقد ولا يرتبط بشئ من التمثيل أو التجربة كما تصور " هيوم " ، وإنما هو حكم العقل وحده ينتهي إليه عن طريق ملاحظة نفس ماهية النظام من دون تنظيرها بشئ ، وبهذا يتساوى الموجود الطبيعي والمصنوع البشري . فالعقل إذا رفض الاذعان بأن الساعة وجدت بلا صانع أو أن السيارة وجدت بلا علة ، فإنما هو لأجل ملاحظة نفس الظاهرة ( الساعة والسيارة ) حيث يرى أنها تحققت بعد ما لم تكن ، فيحكم من فوره بأن لها موجدا . وليس هذا الحكم إلا لأجل الارتباط المنطقي بين وجود الشئ بعد عدمه ، ولزوم وجود فاعل له ، وإن شئت قلت لأجل قانون العلية والمعلولية الذي يعترف به العقل في جميع المجالات . كما أن حكم العقل في المقام بأن الموجود المنظم مخلوق عقل كبير ، ناشئ من الارتباط المنطقي بين النظام ودخالة الشعور ، أو استحالة ظهور النظام صدفة للمحاسبة الرياضية التي مرت ، لا لأن العقل مثل أو جرب فتوصل إلى هذه النتيجة . وحصيلة الكلام : إن طبيعة النظام وماهيته في الأشياء التي نراها تنادي بلسان تكوينها أنها صادرة عن فاعل شاعر وخالق عاقل ، وهذا هو الذي يجعل العقل يذعن بوجود مثل هذا الخالق وراء النظام الكوني ، من دون النظر إلى شئ آخر ( 1 ) .
[1] راجع التقرير الرابع لبرهان النظم ، فقد أشرنا فيه إلى ما ها هنا مفصلا . ( 2 ) إن الأسئلة المتوجهة إلى برهان النظم لا تنحصر بما ذكرناه ، وإن كان هو أقواها . وقد ذكر الأستاذ ( دام ظله ) جميع الإشكالات المطروحة حول هذا البرهان وتربو على السبع ، وأجاب عنها في كتاب " الله خالق الكون " فمن أراد التوسع فيها فليرجع إلى الصفحات التالية منه : ( 220 إلى 279 )