الجبال ، وأضيع الحريم [1] ، وأزيلت الحرمة عند مماته [2] . فتلك والله النازلة الكبرى [3] ، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة [4] أعلن بها كتاب الله - جل ثناؤه - في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم [5] هتافا وصراخا وتلاوة وإلحانا [6] ، ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله ، حكم فصل [7] وقضاء حتم [8] : " وما محمد إلا رسول قد خلت [9] من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [10] ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين [11] " [12] .
[1] حريم الرجل : ما يحميه ويقاتل عنه . [2] الحرمة : ما لا يحل انتهاكه . وفي بعض النسخ : " الرحمة " مكان " الحرمة " . [3] النازلة : الشديدة . [4] البائقة : الداهية . [5] فناء الدار ، ككساء : العرصة المتسعة أمامها . والممسى والمصبح . بضم الميم فيها - مصدران وموضعان من الإصباح والامساء . [6] الهتاف ، بالكسر : الصياح ، والصراخ ، كغراب : الصوت أو الشديد منه ، والتلاوة ، بالكسر : القراءة والألحان : الإفهام يقال : ألحنه القول أي أفهمه إياه ، ويحتمل أن يكون من اللحن بمعنى الغناء والطرب ، قال الجوهري : " اللحن واحد الألحان واللحون ، ومنه الحديث : اقرأوا القرآن بلحون العرب ، وقد لحن في قرائته إذا طرد به وغرد ، وهو ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءة أو غناء " انتهى . ويمكن أن يقرأ على هذا بصيغة الجمع أيضا ، والأول أظهر . وفي الكشف : " فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله في قبلتكم ممساكم ومصبحكم هتافا هتافا " . [7] الحكم الفصل : هو المقطوع به الذي لا ريب فيه ولا مرد له ، وقد يكون بمعنى القاطع الفارق بين الحق والباطل . [8] والحتم في الأصل : إحكام الأمر ، والقضاء الحتم هو الذي لا يتطرق إليه التغيير . [9] مضت . [10] الانقلاب على العقب : الرجوع القهقري ، أريد به الارتداد بعد الإيمان . [11] آل عمران : 144 . [12] الشاكرون : المطيعون المعترفون بالنعم الحامدون عليها . قال بعض الأماثل : واعلم أن الشبهة العارضة للمخاطبين ، بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما عدم تحتم العمل بأوامره وحفظ حرمته في أهله ، فإن العقول الضعيفة مجبولة على رعاية الحاضر أكثر من الغايب وإنه إذا غاب عن أبصارهم ذهب كلامه عن أسماعهم ووصاياه عن قلوبهم ، فدفعها إشارة إليه صلوات الله عليه وآله - من إعلان الله جل ثناؤه وإخباره بوقوع تلك الواقعة الهايلة قبل وقوعها وأن الموت مما قد نزل بالماضين من أنبياء الله ورسله - تثبيتا للأمة على الإيمان ، وإزالة لتلك الخصلة الذميمة عن نفوسهم . ويمكن أن يكون معنى الكلام . أتقولون مات محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته ليس لنا زاجر ولا مانع عما ، نريد ولا نخاف أحدا في ترك الانقياد للأوامر وعدم الانزجار عن النواهي . ويكون الجواب ما يستفاد من حكاية قوله سبحانه " أفإن مات أو قتل " الآية لكن لا يكون حينئذ لحديث إعلان الله سبحانه وإخباره ، بموت الرسول مدخل في الجواب إلا بتكلف . ويحتمل أن يكون شبهتهم عدم تجويزهم الموت على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما أفصح عنه عمر بن الخطاب ، وسيأتي في مطاعنه ، فبعد تحقق موته عرض لهم شك في الإيمان ، ووهن في الأعمال ، فلذلك خذلوها وقعدوا عن نصرتها ، وحينئذ مدخلية حديث الإعلان وما بعده في الجواب واضح . وعلى التقادير لا يكون قولها - صلوات الله عليها - " فخطب جليل " داخلا في الجواب ولا مقولا لقول المخاطبين على استفهام التوبيخي ، بل هو كلا مستأنف لبث الحزن والشكوى ، بل يكون الجواب ما بعد قولها " فتلك والله النازلة الكبرى " ، ويحتمل أن يكون مقولا لقوهم ، فيكون حاصلا شبهتهم أن موته صلى الله عليه وآله والذي هو أعظم الدواهي قد وقع ، فلا يبالي بما وقع بعده من المحظورات ، فلذلك لم ينهضوا بنصرها ، والانتصاف ممن ظلمها . ولما تضمن ما زعموه كون مماته صلى الله عليه وآله أعظم المصائب سلمت عليها السلام أولا في مقام تلك المقدمة لكونها محض الحق ثم نبهت على خطابهم في أنها مستلزمة لقلة المبالاة بما وقع والقعود عن نصرة الحق وعدم اتباع أوامره صلى الله عليه وآله بقولها أعلن بها كتاب الله إلى آخر الكلام ، فيكون حاصل الجواب : إن الله قد أعلمكم بها قبل الوقوع وأخبركم بأنها سنة ماضية في السلف من أنبيائه وحذركم الانقلاب على أعقابكم كيلا تتركوا العمل بلوازم الإيمان بعد وقوعها ، ولا تهنوا عن نصرة الحق وقمع الباطل ، وفي تسليمها ما سلمته أولا دلالة على أن كونها أعظم المصائب مما يؤيد وجوب نصرتي ، فإني أنا المصاب بها حقيقة وإن شاركني فيها غيري ، فمن نزلت به تلك النازلة الكبرى فهو بالرعاية أحق وأحرى . ويحتمل أن يكون قولها عليها السلام " فخطب جليل " من أجزاء الجواب ، فتكون شبهتهم بعض الوجوه المذكورة أو المركب من بعضها مع بعض ، وحاصل الجواب حينئذ أنه إذا نزل بي مثل تلك النازلة وقد كان الله عز وجل أخبركم بها وأمركم أن لا ترتدوا بعدها على أعقابكم ، فكان الواجب عليكم دفع الضيم عني والقيام بنصرتي . ولعل الأنسب بهذا الوجه ما في رواية ابن أبي طاهر من قولها " وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله " بالواو دون الفاء . ويحتمل أن لا تكون الشبهة العارضة للمخاطبين مقصورة على أحد الوجوه المذكورة بل تكون الشبهة لبعضهم بعضا وللأخرى أخرى ، ويكون كل مقدمة من مقدمات الجواب إشارة إلى دفع واحدة منها . أقول : ويحتمل أن لا تكون هناك شبهة حقيقية ، بل يكون الغرض أنه ليس لهم في ارتكاب تلك الأمور الشنيعة حجة ومتمسك إلا أن يتمسك أحد بأمثال تلك الأمور الباطلة الواهية التي لا يخفى على أحد بطلانها . وهذا شايع في الاحتجاج .