وقد بحثت كثيراً عن الدوافع التي جعلت هؤلاء الصحابة يغيّرون سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، واكتشفت أنّ الأمويين هم الذين فعلوا ذلك ، وكان أغلبهم من صحابة النبي ، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان ( كاتب الوحي ) كما يسمّونه ، كان يحمل الناس ويجبرهم على سبّ علي بن أبي طالب ولعنه من فوق منابر المساجد ، كما ذكر ذلك المؤرخون ، وقد أخرج مسلم في صحيحه في باب " فضائل علي بن أبي طالب " مثل ذلك [1] ; وأمر عمّاله - يعني معاوية - في كلّ
[1] أسس الأمويون دولتهم على أساس محاربة أهل البيت ( عليهم السلام ) والنيل منهم ، وتنقيص منزلتهم بين المسلمين ، وسبهم ولعنهم على رؤوس الاشهاد ، وقد بدأوا هذا الأمر من حين انتزاء معاوية على كرسي الخلافة ، فقد أخرج ابن ماجة في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال : " قدم معاوية في بعض حجاته ، فدخل عليه سعد ، فذكروا عليّاً ، فنال منه ، فغضب سعداً وقال : تقول هذا لرجل سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول فيه : " من كنت مولاه فعلي مولاه " ، وسمعته يقول : " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي " ، وسمعته يقول : " لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله " . وقد علق الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني في كتابه صحيح ابن ماجة 1 : 76 ح 120 بقوله : " صحيح : الصحيحة 4 : 335 ( فنال منه ) ، أي : نال معاوية من علي وتكلم فيه " . وقال العلاّمة الشيخ محمّد فؤاد عبد الباقي في تعليقته على الحديث : " قوله : ( فنال منه ) أيّ : نال معاوية من علي ووقع فيه وسبه " سنن ابن ماجة ، تحقيق عبد الباقي 1 : 82 ح 121 . وفي صحيح مسلم 7 : 120 : " أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ فقال : أما ذكرت ثلاثاً قالهنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلن أسبه ، لئن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول له : . . " فذكر حديث المنزلة والراية والمباهلة . وفي تاريخ دمشق لابن عساكر 42 : 119 قال : " لمّا حج معاوية أخذ بيد سعد ابن أبي وقاص فقال : يا أبا إسحاق ، إنا قوم قد أجفانا هذا الغزو عن الحجّ حتّى كدنا أن ننسى بعض سننه ، فطف نطف بطوافك . قال : فلمّا فرغ أدخله في دار الندوة فأجلسه معه على سريره ثُمّ ذكر علي بن أبي طالب فوقع فيه ! قال : أدخلتني دارك ، وأقعدتني على سريرك ، ثمّ وقعت فيه تشتمه ؟ والله لئن أكون في إحدى خلاله الثلاث أحبّ إليّ من إن يكون لي ما طلعت عليه الشمس . . لا أدخل عليك داراً بعد اليوم ، ثُمّ نفض رداءه ، ثُمّ خرج " . وفي سنن أبي داود 2 : 401 عن عبد الله بن ظالم المازني قال : " سمعت سعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل قال : لمّا قدم فلان الكوفة أقام فلان خطيباً ، فأخذ بيدي سعيد بن زيد ، فقال : ألاّ ترى إلى هذا الظالم . . " . قال العظيم آبادي في عون المعبود 12 : 261 : " قال في فتح الودود : ولقد أحسن أبو داود في الكناية عن اسم معاوية والمغيرة بفلان ، ستراً عليهما في مثل هذا المحل ، لكونهما صاحبين فيه ، ( فأخذ بيدي سعيد بن زيد ) هذا مقول عبد الله بن ظالم ، ( فقال ) أي سعيد ، ( إلى هذا الظالم ) يعني الخطيب . قال بعض العلماء : كان في الخطبة تعريضاً بسب علي ( رضي الله عنه ) " . وقال الإمام الذهبي في ترجمة عمر بن عبد العزيز : " . . كان الولاة من بني أُمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضى الله عنه ! ، فلمّا ولي هو أمسك عن ذلك فقال كثيِّر عَزَّة الخزاعي : وليت فلم تشتم عليّاً ولم تخفِ * برياً ولم تتبع مقالة مجرمِ " سير أعلام النبلاء 5 : 147 وقال ابن تيمية الحراني : " وأما عليّ فأبغضه وسبّه أو كفره الخوارج وكثير من بني أُمية وشيعتهم الذين قاتلوه وسبوه . . وأما شيعة علي الذين شايعوه بعد التحكيم ، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم ; فكان بينهما من التقابل وتلاعن بعضهم ما كان . وكذلك تفضيل عليّ عليه لم يكن مشهوراً فيها ، بخلاف سبِّه علي فإنّه كان شائعاً في اتباع معاوية " مجموعة الفتاوى 4 : 267 . أما الإمام الأوزاعي صاحب المذهب المنتشر في الشام إلى سنة 340 ه والذي ولي القضاء ليزيد بن الوليد الأموي ، يصف الحال الذي كانت عليه الشام وولاتها فيقول : " يقول عيسى بن يونس : سمعت الأوزاعي يقول ما أخذنا العطاء حتّى شهدنا على عليّ بالنفاق ! ! وتبرأنا منه ! ! وأخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق وإيمان البيعة " . سير أعلام النبلاء ، ترجمة الإمام الأوزاعي 7 : 130 وقال ابن الأثير في أحداث سنة 51 ه : " وفي هذه السنّة قتل حجر بن عدي وأصحابه . وسبب ذلك : إنّ معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين ، فلمّا أمره عليها دعاه وقال له : أمّا بعد ; فإنّ لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ، وقد يجتري عنك الحكيم بغير التعليم ، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتماداً على بصرك ، ولست تاركاً إيصاءك بخصلة : لا تترك شتم عليّ وذمه ، والترحم على عثمان والاستغفار له ، والعيب لأصحاب عليّ والإقصاء لهم " الكامل في التاريخ 3 : 472 ، تاريخ الطبري 3 : 218 ، وقال ابن كثير الدمشقي في حوادث سنة 106 : " وحجّ بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك ، وكتب إلى أبي الزناد قبل دخوله المدينة ليتلقاه ، ويكتب له مناسك الحجّ ، ففعل ، فتلقاه الناس من المدينة إلى أثناء الطريق ، وفيهم أبو الزناد قد امتثل ما أُمر به ، وتلقاه فيمن تلقاه سعيد بن عبد الله ابن الوليد بن عثمان بن عفان ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّ أهل بيتك في مثل هذه المواطن الصالحة ! لم يزالوا يلعنون أبا تراب ، فالعنه أنت أيضاً . . " البداية والنهاية 9 : 171 ، الكامل في التاريخ 5 : 130 ، تاريخ الطبري 4 : 118 فكانت سياسة معاوية هي النيل من سيد أهل البيت والحط من منزلته ، وتنقيصه بين عموم المسلمين . ولم يقف أمره عند هذا الحدّ ، بل أخذ يتبع شيعة علي بن أبي طالب ومحبيه والنيل منهم سجناً وتعذيباً وقتلاً . قال ابن عساكر في تاريخه 8 : 25 بعد القاء القبض على حجر بن عدي ومن معه وإرسالهم إلى معاوية : " فقال لهم رسول معاوية : إنا قد أُمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي ، إن فعلتم تركناكم وإن أبيتم قتلناكم ; إنّ أمير المؤمنين يزعم أنّ دماءكم قد حلت له بشهادة أهل مصركم عليكم غير أنّه قد عفى عن ذلك ، فابرأوا من هذا الرجل نخل سبيلكم " . وفي الكامل لابن الأثير 3 : 485 حوادث سنة 51 : " قالوا لهم قبل القتل : إنا قد أُمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له ، فإنّ فعلتم تركناكم ، وإن أبيتم قتلناكم " . وفي سير أعلام النبلاء للذهبي 6 : 466 قال : " لما أتي معاوية بحجر قال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، قال : أو أمير المؤمنين أنا ! اضربوا عنقه . وقيل : إنّ رسول معاوية عرض عليهم البراءة من رجل والتوبة " وقد ذكر الذهبي اسم ذلك الرجل في تاريخ الإسلام 4 : 194 ، وهو علي بن أبي طالب . وقال الذهبي - أيضاً - في السير 3 : 137 : " ورجع معاوية بالألفة والاجتماع وبايعه أهل الشام بالخلافة . . فكان يبعث الغارات فيقتلون من كان في طاعة علي " . وفي الإصابة 1 : 422 في ترجمة بسر بن أرطأة قال : " وكان من شيعة معاوية ، وكان معاوية وجهه إلى اليمن والحجاز . . وأمره أن ينظر من كان في طاعة علي فيوقع بهم ، ففعل ذلك " . وفي أسد الغابة 1 : 180 : " وكان معاوية سيره إلى الحجاز واليمن ليقتل شيعة علي " . وفي الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 : 203 كتب الإمام الحسن إلى معاوية كتاباً قال فيه : " أولست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد أنّه على دين علي " . وقال الجاحظ في البيان والتبيين 1 : 266 : " وجلس معاوية رضي الله تعالى عنه بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه ، فجاءه رجل من بني تميم ، فأراده على ذلك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، نطيع أحياءكم ، ولا نبرأ من موتاكم . . " .