إنه عالم جديد بالنسبة إلي اكتشفته أو كشفه الله لي ، وقد أنست به بعد ما كنت أنفر منه ، وانسجمت معه بعد ما كنت أعاديه ، وقد أفادني هذا العالم أفكاراً جديدة ، وبعث فيّ حُبَّ الاطلاع والبحث والدراسة ، حتّى أدرك الحقيقة المنشودة التي طالما راودتني عندما قرأت الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " افترقت بنو إسرائيل إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النّصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمّتي إلى ثلاثة وسبعين فرقة ، كلّها في النار إلاّ فرقة واحدة " [1] .
[1] حديث الفرقة الناجية ورد بأسانيد وألفاظ مختلفة ، انظر : سنن الترمذي 5 : 26 ح 2641 كتاب الايمان ، سنن ابن ماجة 2 : 1322 ، سنن أبي داود 4 : 198 كتاب السنة ، مسند أحمد 3 : 120 ، المستدرك للحاكم 1 : 128 ، المصنف لابن أبي شيبة 8 : 731 ، كتاب السنة لابن أبي عاصم : 34 ، الدر المنثور 2 : 61 ، 275 ، 3 : 136 ، 149 ، الخصال للصدوق 2 : 584 أبواب السبعين وما فوق ، البحار 28 : 3602 . والأحاديث كثيرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حول الفرقة الناجية من يطلع عليها يطمئن بصدور هذا الخبر عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وفيه بيان لا بدية افتراق الأُمة واختلافها هذا الاختلاف الواسع جداً كما اختلفت الأممّ التي قبل هذه الأُمة ، وبيان أنّ هذا الافتراق والاختلاف مذموم متوعد عليه بالنار إلاّ فرقة واحدة هي الفرقة الناجية . وقد وقع الخلاف بين المسلمين في تحديد الفرقة الناجية ، تبعاً لاختلافهم في المذاهب والعقائد ، وكُلّ منهم يدعي أنّه الفرقة الناجية ، وغيره من فرق المسلمين باطل وهالك وداخل في الفرق المتوعد دخولها في النار . ويعتقد أهل السنة أنّ أهل الحديث همّ الفرقة الناجّية ، قال رضا معطي : " إنّها العقيدة السلفية تبرك المسلم بالسلف العظيم فتزيده عزة وافتخاراً كيف لا ؟ وهي تجعله يسير على خطى الصحابة ومن جاء بعدهم من السلف الذين هم سادة الأُولياء وأئمة الأتقياء ، وما كانوا عليه هو الدين الذي لا جدال فيه . كُلّ ذلك يزيد المسلم بصيرة في دينه ، فهو متأكد أنّه يسير في ظلال الفرقة الناجية التي وصفها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حديث " افتراق الأُمة " ولا يستطيع أحد أن ينفي هذا الوصف عن سلف هذه الأُمة . . . ولا شكّ أنّ من كان على طريقتهم ممّن جاء بعدهم هم أهل الحقّ وهم الفرقة الناجّية وهذا ما قرّره المحققون من أهل العلم " علاقة الاثبات والتفويض بصفات الربِّ : 19 - 20 . وقال مرجع السلفية الشيخ محمّد جميل زينو : " الفرقة الناجية : يحيون سنن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في عباداتهم وسلوكهم وحياتهم ، فأصبحوا غرباء بين قومهم ، كما أخبر عنهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله : " إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء " مجموع رسائل التوجيهات الإسلامية منهاج الفرقة الناجية : 158 - 162 . وقال الشيخ مقبل الوادعي بعد ذكره لحديث الافتراق : " فهذان الحديثان وما في معناهما من الأحاديث تدل على أنّه لا ينجو إلاّ فرقة من ثلاثة وسبعين فرقة ، والفرق الأُخرى في النار تحتم على المسلم أن يبحث عن هذه الفرقة الناجية حتّى ينتظم في سلكها ويأخذ دينه عنها . وممّا يجب التنبه عليه أن كُلّ فرقة تدعي أنّها الفرقة الناجية ، وقد جاء الكتاب والسنة ببيان الفرقة الناجية . . . إلى أن يقول : فمن توفرت فيه هذه الصفات في سورة العصر والمؤمنون والحديد فهو من الفرقة الناجّية ، سواء كان حجازياً أم يمنّياً أم شامياً أم من أي بلدة كان . وأقرب الناس ممّن تنطبق عليه هذه الصفات هّم أهل الحديث ، وقد قال غير واحد من أهل العلم : إنّ المراد بما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معاوية والمغيرة بن شعبة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) " لا تزال طائفة من هذه الأُمة قائمة على أمر الله لا يضرّهم من خالفهم حتّى يأتي أمر الله " قال غير واحد من أهل العلم أن المراد بهم أهل الحديث ; لأنّهم لا يتعصبون لأيّ مذهب ، وإنّما يتعصبّون للحق " رياض الجنّة في الرد على أعداء السنة : 8 - 9 . وقال ابن تيمية في جوابه عن الفرقة الناجية : " . . . وإذا كانت سعادة الدنيا والآخرة هي باتباع المرسلين ، فمن المعلوم أنّ أحق الناس بذلك هم أعلمهم بآثار المرسلين واتبعهم لذلك ، فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم ، المتبعون لها ، هم أهل السعادة في كُلّ زمان ومكان ، وهم الطائفة الناجّية من أهل كُلّ ملّة ، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأُمة ، فإنّهم يشاركون سائر الأُمة فيما عندهم من أمور الرسالة ، ويمتازون عنهم بما اختصوه من العلم الموروث عن الرسول ممّا يجهله غيرهم أو يكذب به " . وقال - أيضاً - : " ومن المعلوم أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول واتباعه ، فلهم من فضل الله وتخصيصه إيّاهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم ، كما قال بعض السلف : أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل . . ! ! والمقصود التنبيه على أنّ كُلّ من زعم بلسان حاله أو مقاله أنّ طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق الأمور الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد ، وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر وتعرف واجب الوجود والنفس الناطقة والعلوم والأخلاق التي تزكوا بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث ، فهو وإن كان من المؤمنين بالرسل فهو جاهل ، فيه شعبة قوية من النفاق ، وإلاّ فهو منافق خالص من الذين ( إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء إلاّ إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ) . . " مجموعة الفتاوى الكبرى 4 : 140 . وقال الشيخ حافظ حكمي علامة السلفية في كتابه معارج القبول 1 : 36 تحت عنوان ( الفرقة الناجية ) قال : " وقد أخبر الصادق المصدق ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ الفرقة الناجّية هّم من كان على مثل ما كان عليه أصحابه ، ولس أحدٌ من هؤلاء كذلك ، بل إنّهم قد ضلّوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل ، وذلك لأنّه لا يعرف ما كان عليه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه إلاّ من طريق سنته المروية وآثاره المصطفوية التي هي الشريعة الغراء والمحجّة البيضاء ، وهؤلاء من أبعد الناس عنها وأنفرهم منها ، وإنّما تصلح هذه الصفة لحملتها وحفاظها والمنقادين لها . . . أعني بذلك أئمة الحديث وجهابذة السنة وجيش دولتها ، المرابطين على ثغورها الحافظين حدودها الحامين حوزتها . . . فآمنوا بما أخبر الله به في كتابه وأخبر به عبده ورسوله محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في سنته ، وتلقوه بالقبول والتسليم اثباتاً بلا تكيف ولا تمثيل ، وتنزيها بلا تحريف ولا تعطيل ، فهم الوسط في فرق هذه الأُمة ، كما أنّ هذه الأُمة هي الوسط في الأُمم . . . فهم والله ( أهل السنة والجماعة ) وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة الذين لم تزل قلوبهم على الحقّ متفقة مؤتلفة . . " . وقال الإسماعيلي في اعتقاد أئمة الحديث 1 : 79 " وجوب لزوم مذهب أهل الحديث الفرقة الناجية : هذا أصل الدين والمذهب اعتقاد أئمة أهل الحديث الذين لم تشنعهم بدعة ، ولم تلبسهم فتنة ، ولم يخفوا إلى مكروه في دين ، فتمّسكوا معتصمين بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا عنه ، واعلموا أنّ الله تعالى أوجب محبته ومغفرته لمتبعي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كتابه وجعلهم الفرقة الناجّية والجماعة المتبعة . . " . فتلحظ ابن تيمية يجعل أهل الحديث من غيرهم كاهل الإسلام في الملل الأُخرى ، فهم ملّة وبقيّة الناس ملّة أُخرى ؟ ! وهذا من مجازفات الخط المنحرف الذي يؤدي بصاحبه إلى سلوك الهاوية ورمي الأُمة الإسلامية بالخروج عن الدين والعيش في جهالات الكفر والضلال ، ويحصر الإسلام على فئة خاصّه معينه يسميها ب أهل الحديث . وفي قوله الثاني ما فيه من الكيل الثقيل والتهجم الكبير حيث جعل غير أهل الحديث من المنافقين الذين يستحقون الدرك الأسفل من النار ، لأجل عدم عملهم بعلم الحديث ومدارسته ! ! وسيوافيك في الصفات اللاحقة كلمات علماء الحديث في حق أنفسهم ، وفي العلم الذي يدرسونه وأي قيمة له في نفوسهم . ويتابع الشيخ الحراني كلامه فيقول : " وبهذا يتبين أنّ أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة ، الذين ليس لهم متبوع يتعصّبون له إلاّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) " المصدر السابق 3 : 346 ومن شاء المزيد عليه مراجعة كتاب ( أهل الحديث هم الطائفة المنصورة ) لمؤلفه الشيخ ربيع بن هادي المدخلي ، حيث نقل أقوال العلماء هناك وبين ما فيه كفاية لمن يريد . قد لاحظنا في الكلمات السابقة أنّهم يعدون أهل الحديث ( الفرقة الناجية ، الطائفة المنصورة ، الغرباء ) ; لأنّهم يتبعون آثار الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويتبعون أقواله وأفعاله ويدونوها ويبينوها للناس ، ويقتفون آثار السلف الصالح والعلماء السابقين ، ويسيرون على نهجهم ويقفون أثرهم ، ويطلبون الحقّ في مظانه ، حتّى لو كلفهم أغلى شيء عندهم ، فهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، أو اعتراض معترض أو نبز نابز . . . بل هدفهم الحقّ دائماً يتبعونه أينما كان وينشدونه أينما حل . . . هؤلاء هم أهل الحديث ، وهذه صفاتهم وميزاتهم ، وعلى ذلك ينطبق عليهم وصف الغرباء ، والفرقة الناجية ، والطائفة المنصورة . هذا ما يذكرونه في وصفهم ومدحهم لعلماء الحديث . وهذا ما يجعلونه الشعار المنطبق عليهم . . . ولكن هل هذا الكلام صحيح ؟ وهل يصح ما ذكروه من الصفات لأصحاب الحديث ؟ عندما نرجع إلى كلمات المحدثين أنفسهم نجدهم يطعن بعضهم في بعض ، ويجانبون الصواب ، ويميلون عن الحقّ ، ويتبعون رغباتهم وأهواءهم ، ولا يزنون بالقسطاس المستقيم واليك كلمات علماء الحديث أنفسهم : 1 - قال الإمام الذهبي واصفاً أهل الحديث - وهو أحدهم - : " أما المحدثون فغالبهم لا يفهمون ، ولا هّمة لهم في معرفة الحديث ، ولا في التدين به ، معذور سفيان الثوري فيما يقول : لو كان الحديث خيراً لذهب كما ذهب الخير ! صدق والله ، وأي خير في حديث مخلوط صحيحه بواهيه ، أنت لا تقليه ولا تبحث عن ناقلية ، ولا تدين الله تعالى به . إنما همتهم السماع على جهلة الشيوخ ، وتكثير العدد من الأجزاء والرواة لا يتأدبون بآداب الحديث ، ولا يستفيقون من سكرة السماع ، الآن يسمع الجزء ونفسه تحدثه متى يرويه ؟ أبعد الخمسين سنة ؟ ! ويحك ما أطول أملك ، وأسوأ عملك . أما اليوم في زماننا فما يفيد المحدّث الطلب والسماع ، مقصود الحديث من التدين به ، بل فائدة السماع ليروي ، فهذا والله لغير الله . خطابي معك يا محدّث ، لا مع من يسمع ولا يعقل ولا يحافظ على الصلوات ، ولا يجتنب الفواحش ولا قرش الحشائش ، ولا يحسن أن يصدق فيها ، فيا هذا لا تكن محروماً مثلي ، فإنا نحن أبغض المناحيس . ثمّ قال : " بالله خلونا فقد بقينا ضحكة لأولي المعقولات ، ينظرون بنا هؤلاء هم أهل الحديث . . . لكنك معذور ، فما شممت للإسلام رائحة ، ولا رأيت أهل الحديث " وبعد إن عرض سير الرواية في العصور الأُولى قال : " ثُمّ تناقض هذا الشأن في المائة الرابعة بالنسبة إلى المائة الثالثة ، ولم يزل ينقص إلى اليوم ، فأفضل من في وقتنا اليوم من المحدثين على قلتهم نظير صغار من كان في ذلك الزمان على كثرتهم ، وكم من رجل مشهور بالفقه وبالرأي في الزمن القديم أفضل في الحديث من المتأخرين ، وكم من رجل من متكلمي القدماء أعرف بالأثر من مشيخة زماننا " بيان زغل العلم والطلب عن أهل الحديث 6 - 12 . 2 - قال ابن قتيبة الدينوري في تأويل مختلف الحديث 78 : " فهل أصحاب الحديث في سقطهم إلاّ كصنف من الناس ؟ على أنا لا نخلي أكثرهم من العذل في كتبنا في تركهم الاشتغال بعلم ما كتبوا ، والتفقه بما جمعوا ، وتهافتهم في طلب الحديث من عشرة أوجه أو عشرين وجهاً ! وقد كان في الوجه الواحد الصحيح والوجهين مقنع لمن أراد الله عزّ وجلّ بعلمه ، حتّى تنقضي أعمارهم ، ولم يحلوا من ذلك إلاّ بالاسفار أتعبت الطالب ، ولم تنفع الوارث . فمن كان من هذه الطبقة فهو عندنا مضيع لحقه مقبل على ما كان غيره أنفع له منه . وقد لقبوهم بالحشوية ، والنابتة ، والمجبرة ، وربما قالوا الجبرية وسمّوهم : الغثاء والغثر " . 3 - وقد عقد الإمام ابن عبد البرّ فصلاً كاملاً حول هذا الموضوع ، وذكر فيها كلاماً كثيراً حول المحدثين وصفاتهم وما قالوه حول علم الحديث نقتصر على ذكر بعض منه : " . . . وعن شعيب بن حرب قال : كنا عند سفيان يوماً نتذاكر الحديث فقال : لو كان في الحديث خير لنقص كما ينقص الخير ، ولكنه شر فأراه يزيد كما يزيد الشر . وكان زكريا بن القطان يقول : رأيت سفيان بن عيينة وقد ألجأه أصحاب الحديث إلى الميل الأخضر ، فالتفت إليهم فقال : ما أرى الذي تطلبونه من الخير ، ولو كان من الخير لنقص كما ينقص الخير . وقد أخذه بكر بن حماد فقال : لقد جفت الأقلام بالخلق كُلّهم * فمنهم شقي خائب وسعيد تمر الليالي بالنفوس سريعة * ويبدي زي خلقه ويعيد أرى الخير في الدنيا يقل كثيره * وينقص نقصاً والحديث يزيد فلو كان خيراً قلّ كالخير كُلّه * وأحسب أنّ الخير منه بعيد ولابن معين في الرجال مقالة * سيسأل عنها والمليك شهيد فان يك حقاً قوله فهو غيبة * وإن يك زوراً فالقصاص شديد وكُلّ شياطين العباد ضعيفة * وشيطان أصحاب الحديث مريد جامع بيان العلم وفضله : 430 . وقال في ص 436 : " وكان سفيان الثوري يقول : أنا فيه - يعني الحديث - منذ ستين سنة ، وددت أني أخرج منه كفافاً لا لي ولا علي " وفي ص 437 قال : " وقال يحيى بن سعيد القطان : رواة الشعر أعقل من رواة الحديث ; لأنّ رواة الحديث يروون مصنوعاً كثيراً ، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع يتفقدونه ويقولون هذا مصنوع " . وقال عمرو بن الحارث : " ما رأيت علماً أشرف ولا أهلاً أسخف من أهل الحديث " . وكان مسعر يقول : " من أبغضني جعله الله محدثاً ، ووددت أن هذا العلم كان حمل قوارير حملته على رأسي فوقع فتكسر فاسترحت من طلابه " . وكان مغيره الضبي يقول : " والله لأنا أشدّ خوفاً منهم منّي من الفساق - يعني أصحاب الحديث - " . وقال في : 438 : " وقال الشعبي : كنت إذا رأيت أحداً من أهل الحديث يجيئ أفرح ، فصرت اليوم ليس لشيء أبغض إليّ من أن أرى واحداً منهم " . وقال أبو داود : " الحديث لا يحتمل حسن الظن " . وكان يحيى بن يمان يقول : لا يكتب أحدهم الحديث ولا يتفهم ولا يتدبر فإذا سئل أحدهم عن مسأله جلس كأنّه مكاتب . وعن سفيان قال : " قال لي إياس بن معاوية : أراك تطلب الحديث والتفسير فإياك والشناعة فإنّ صاحبها لن يسلم من عيب " . قال أبو عمر ( يعني ابن عبد البر ) في مثل هذا يقول الشاعر : زوامل للأسفار لا علم عندهم * بجيدها إلاّ كعلم الأباعر لعمري ما يدري البعير إذا غدا * بأحمله أو راح ما في الغرائر 4 - وقال ابن تيمية الحراني في رده على معيبي أهل الحديث من تمسكهم بالحديث الضعيف في الأصول أو الفروع أو تأويل الحديث تأويلاً غير صحيحاً : " ولا ريب أنّ هذا موجود في بعضهم ، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الأصول والفروع ، وبآثار مفتعلة وبحكايات غير صحيحة ! ! ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه ، وربما تأوّلوه على غير تأويله ، ووضعوه على غير موضعه . ثُمّ إنّهم بهذا المنقول الضعيف السخيف قد يكفرون ويضللون ويدعون أقواماً من أعيان الأمة ويجهلونهم ! ! ! ففي بعضهم من التفريط في الحقّ والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطئاً مغفوراً ! ! وقد يكون منكراً من القول وزوراً ، وقد يكون من البدع والضلالات التي توجب غليظ العقوبات فهذا لا ينكره إلاّ جاهل أو ظالم وقد رأيت من هذا عجائب " . فهذا ابن تيمية المتعصب لأهل الحديث والذي مرّ في كلامه آنفاً تكفير من ينتقصهم أو لا يرجع إليهم نراه هنا يصفهم : يكفرون من لا يستحق التكفير فيحيفون عن الحقّ ويظلمون الآخرين ، يرمون أعيان الأُمة بالجهل والجهالة والتقصير من دون مبرر أو مسوغ ، يرمون العلماء بالبدع وارتكاب ما يخالف الدين وهم ليس كذلك ، وبعض الأحيان رميهم للآخرين بالبدع والضلالة زلل لا يغفر لمرتكبه ولا يخرج من ذنبه . 5 - وقال الشيخ المحدث محمّد ناصر الدين الألباني في صحيحته 7 : 723 - 724 تعليقاً على حديث : " ليدخلنّ عليكم رجل لعين يعني الحكم بن أبي العاص " وكيف أنّ المحدثين طعنوا في صحته ، بل لم يتعرض بعضهم لذكره ، مع أنّه حديث صحيح وثابت لا جرح في رواته ولا نكارة في متنه فقال : " هذا ! وإني لأعجب أشدّ العجب من تواطؤ بعض الحفاظ المترجمين للحكم على عدم سوق بعض هذه الأحاديث وبيان صحتها في ترجمته ، أهي رهبة الصحبة وكونه عمّ عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) ، وهم المعروفون بأنّهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ؟ ! أم هي ظروف حكومية أو شعبية كانت تحول بينهم وبين ما كانوا يريدون التصريح به من الحقّ ؟ ! فهذا - مثلاً - ابن الأثير يقول في أُسد الغابة : " وقد روي في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها إلاّ أنّ المقطوع به أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع حلمه واغضائه على ما يكره ما فعل به ذلك إلاّ لأمر عظيم " . وأعجب من هذا صنيع الحافظ في الإصابة فإنّه مع إطالته في ترجمته صدرها بقوله : قال ابن السكين : يقال إنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعا عليه ولم يثبت ذلك ! وسكت عليه ولم يتعقبه بشيء ، بل إنّه اتبعه بروايات كثيرة فيها أدعية مختلفة عليه ، كنت ذكرت بعضها في الضعيفة . وسكت عنها كُلّها ، وصرّح بضعف بعضها ، وختمها بذكر حديث عائشة المتقدم : إنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعن أباك وأنت في صلبه ، ولكنه يريد أنّ يصرّح بصحته المح إلى إعلاله بمخالفته رواية البخاري المتقدمة فقال عقبها : " قلت واصل القضية عند البخاري بدون هذه الزيادة " ! فأقول : ما قيّمة هذا التعقيب ، وهو يعلم أنّ هذه الزيادة صحيحة السند ، وإنّها من طريق غير طريق البخاري ؟ ! وليس هذا فقط بل ولها شواهد صحيحة - أيضاً - كما تقدم ! ! اكتفيت بها عن ذكر ما قد يصلح للاستشهاد به فقد قال في آخر شرحه للحديث : " هلكت أمتي على يدي غُلمة من قريش " الفتح 13 / 11 : " وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد أخرجها الطبراني وغيره غالبها فيها مقال ، وبعضها جيد ، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك " ! وأعجب من ذلك كُلّه تحفظ الحافظ الذهبي بقوله في ترجمة ( الحكم ) من تاريخه 2 : 96 " وقد وردت أحاديث متكررة في لعنه لا يجوز الاحتجاج بها . وليس له بالجملة خصوص الصحبة بل عمومها " ! كذا قال مع أنّه بعد صفحة واحدة ساق رواية الشعبي عن ابن الزبير مصححاً اسناده كما تقدم ! ! ومثل هذا التلون أو التناقض مما يفسح المجال لأهل الأهواء أن يأخذوا منه ما يناسب أهواءهم نسأل الله السلامة " . وهناك كلمات كثيرة - يطول المقام بذكرها - ذكرها العلماء حول علماء الحديث وما فيهم من معاييب ونقائص وتحامل ، فهم يستدلون بالحديث الضعيف ، ويرتبون عليه أحكاماً شرعية ، سواء في أصول الدين أو فروعه ، ويضللّون الناس على أساسه ويدعونهم على ضوئه ، تبعاً لأهوائهم وما تمليه عليهم قناعاتهم وأوضاعهم التي يعيشون في وسطها . ومن يرجع إلى موازين علماء الحديث لا يجد شيئاً ممّا ذكر - من عدالتهم وتمسكهم بالحق والعدل والانصاف - في الحكم ، واليك غيضاً من فيض كلماتهم وموازينهم المجحفة . 1 - قال ابن حجر العسقلاني 8 : 411 : " وقد كنت استشكل توثيقهم الناصبي غالباً وتوهينهم الشيعي مطلقاً ولا سيما أن علياً ورد في حقه لا يحبه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق " . فهذا الميزان يجعل المنافق بنصّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو كاذب بصريح القرآن موثقاً مقبول الرواية عند المحدثين ، بينما الشيعي المؤمن الصادق بنصّ القرآن الكريم كاذباً ومطعوناً فيه لا لشيء إلاّ لكونه شيعياً ! ! 2 - إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني أحد أئمة الجرح والتعديل ، قال ابن عدي - في ترجمة إسماعيل بن أبان الوراق - كما قال فيه الجوزجاني كان مائلاً عن الحقّ ، ولم يكن يكذب الجوزجاني كان مقيماً بدمشق ، يحدث على المنبر ، وكان أحمد يكاتبه فيتقوى بكتابه ، ويقرؤه على المنبر ، وكان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في التحامل على علي ( رضي الله عنه ) ، فقوله في إسماعيل : مائل عن الحقّ يريد به ما عليه الكوفيين من التشيع . ميزان الاعتدال 1 : 76 . وقال ابن حجر في لسان الميزان 1 : 16 : " وممّن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد فإنّ الحاذق إذا تأمّل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب ، لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع ، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة ، وعبارة طلقة وحتى إنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث " . فهذا إمام من أئمة علماء الحديث وهو شدّيد النصب لعلي ( عليه السلام ) ، يأخذون بقوله ويعتمدون عليه في أقواله وأحكامه ، بل يعد من المؤسسين لقواعد علم الرجال السنّي فهو أوّل من أسس قاعدة إن المبتدع الثقة لا تقبل روايته إذا وافقت بدعته ، حتّى إذا كان ثقة لا يكذب ، الباعث الحثيث 100 . 3 - تمالئهم حول الصحابة والتابعين الذين خطأوا أصحاب الجمل وصفين ورميهم بالابتداع ، وعدم الأخذ برواياتهم ، قال الذهبي في ميزان الاعتدال 1 : 118 في ترجمة أبان بن تغلب : " فلقائل أنّ يقول : كيف ساغ توثيق المبتدع وحد الثقة العدالة والاتقان ؟ فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة ؟ وجوابه : إنّ البدعة على ضربين ، فبدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف ، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق ، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية ، وهذه مفسدة بيّنة . ثمّ بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - والدعاء إلى ذلك فهذا النوع لا يتبجح بهم ولا كرامة . وأيضاً فما استحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً ، بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق دثارهم ، فكيف يقبل نقل من هذا حاله ! حاشا وكلا . فالشيعي الغالي في زمن السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية ، وطائفة ممّن حارب علياً ( رضي الله عنه ) وتعرض لسبهم . . " . ففي ميزان الذهبي المحدث أنّ الذين يتكلم فيمن حارب علياً يعد شيعياً غالياً ، وقد ذكر في موضع من كتابه سير أعلام النبلاء 7 : 37 تعليقاً على ما نقل من قول وكيع : بان الحسن بن صالح إمام فقيل له : إنّه لا يترحم على عثمان ؟ ! فقال : أفتترحم أنت على الحجاج فقال الذهبي معلقاً : " قلت : لا بارك الله في هذا المثال ، ومراده : إنّ ترك الترحم سكوت ، والساكت لا ينسب إليه قول ، ولكن من سكت عن ترحم مثل الشهيد أمير المؤمنين عثمان فإنّ فيه شيئاً من تشيع ، فمن نطق فيه بغض وتنقص وهو شيعي جلد يؤدب " فعلى هذا يكون كثير من التابعين مستحقين للتأديب والتوبة لما فيهم من تشيع ولما قالوه في حقّ عثمان ! وهذا الحكم لم يسنده الذهبي إلى دليل معتبر أو قاعدة يعول عليها . أضف إلى ذلك فإنه مرّ عليه سابقاً من إنهم يوثقون الناصبي غالباً ، بل ويصفونه بأنه أصدق الناس من أهل البدع كما قاله ابن داود ! مع أنّ الناصبي الطعن فيه أولى من الطعن بالشيعي المنتقص للشيخين فضلاً عن عائشة وطلحة والزبير ; لأن عليّاً بن أبي طالب ورد في حقه إن حبه إيمان وبغضه نفاق ، فالناصب منافق والمنافق كاذب بشهادة القرآن ، فكيف يوثقونهم دائماً ويأخذون برواياتهم ؟ ! وكيف يجعلونهم أصدق الناس مع شهادة الله ورسوله بكذبهم ؟ ! ! ومنه يتضح أنّ ما ذكر في حقّ المحدثين من الصدق واتباع الحقّ ما هو إلاّ مجازفة وتعظيم لأمر لا صحة له أصلاً . 4 - قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 464 : " ذكر إبراهيم النخعي عند الشعبي فقال : ذاك الأعور الذي يستفتي بالليل ويجلس يفتي الناس بالنهار . . قال أبو عمر : معاذا الله أن يكون الشعبي كذّاباً ، بل هو إمام جليل والنخعي مثله جلالة وعلماً ، وأظن الشعبي عوقب بقوله في الحارث الهمداني : حدثني الحارث وكان كذاباً . ولم يبن من الحارث كذب ، وإنّما نقم عليه إفراطه في حبّ علي ( رضي الله عنه ) وتفضيله له على غيره . ومن ههنا والله أعلم كذبه الشعبي ; لأنّ الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر ( رضي الله عنه ) وإلى أنّه أوّل من أسلم . . . " . فهم يكذبون المحدث الذي يحب علي بن أبي طالب حتّى لو كان صادقاً في قوله ، فكيف يمكن الحكم على هؤلاء بأنّهم أصدق الناس وأكثر اتباعاً للحق ؟ ! ! 5 - وهاك الطامة الكبرى التي سار عليها المحدثون وأسسوا بنيتها للاحقين ، فهذا الأوزاعي الإمام المعرف يقول : " ما أخذنا العطاء حتّى شهدنا على علي بالنفاق ، وتبرأنا منه ، وأُخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق وايمان البيعة " سير اعلام النبلاء 7 : 130 . فإذا كان أهل الحديث لا ينطقون إلاّ بالصدق ولا يعدلون عن الحقّ فكيف تبرأوا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) الذي نفسه نفس الرسول ، وهو أخوه وصهره وأبو ولده ، وهو ميزان الإيمان والنفاق ؟ ! فإذا جاز لهم التبرؤ من علي بن أبي طالب والشهادة عليه بالنفاق ، فيجوز صدور أي شيء منهم من كتاب وتدليس وقول الزور والحكم بما لا يرضي الله ورسوله . ومن شاء مزيد اطلاع يرجع إلى جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر في فصل ( حكم قول العلماء بعضهم في بعض ) ليرى كلمات بعضهم في حق بعض ، وطعن بعضهم بعضاً ! قال العلامة بدر الدين الحوثي في معرض رده على مقبل الوادعي الذي قال : " وأقرب الناس ممّن تنطبق عليه هذه الصفات هم أهل الحديث " قال : " والجواب : أهل الحديث مختلفون في العقائد والمذاهب والأعمال . . . فإنّ أراد بقوله " أهل الحديث " أئمته الذين عددهم ، أيّ ابن المبارك والبخاري ومسلم فهي دعوى تحتاج إلى بينة ; لأنّ الصفات التي ذكرها الله تعالى في سورة العصر ، وأول سورة المؤمنين والحديث واضحة وجلية في كلّ من وضح منه العمل بكتاب الله وسنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وذلك واضح في علماء آل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلي ( عليه السلام ) وفاطمة ( عليها السلام ) والحسنين ( عليهما السلام ) ومن بعدهم ، والذين توارثوا العلم والدين من ذلك الزمان ، ولم يقلّدوا في الدين من خالف آباءهم الطاهرين ، بل أعظم همّهم أخذ العلم عن أسلافهم ، وعرض ما ورد عليهم من الكتاب والسنة ، المعلومة باليقين والمجمع عليها بين المختلفين ، وعملوا بحديث الثقلين ونحوه ، وحديث : " لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق " ، وتجنبوا مخالطة الظلمة الركون إليهم ، وجاهدوا في الله حقّ جهاده ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، فكانوا أحق باسم الإيمان هّم ومن سلك طريقهم ، وأحق أن يكونوا الفرقة الناجية لقوله تعالى في الفرق بين المنافقين والمنافقات : ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم ) ، وقوله تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إنّ الله عزيز حكيم ) وقوله تعالى : ( قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم . . ) . . " وقال في معرض رده على مقبل الوادعي الذي قال في أهل الحديث : " لأنهم لا يتعصبون لأي مذهب وإنّما يتعصبون للحق " قال : " والجواب : إنّ عنى أئمته من أهل الحديث فهل يعني ليس لهم مذهب يتعصبون له ؟ فهذا خلاف الواقع لأنّ لهم مذاهب معروفة يتعصبون لها منها : تقديم أبي بكر وعمر وعثمان ، وتفضيل الشيخين أو الثلاثة على علي ( عليه السلام ) ، وتعصبهم لهذا ظاهر ، حتّى إنّ من خالفهم فيه يرمونه بالغلو في التشيع ، وربما رموه بالرفض ، وأقل أحواله أنّه يعتبر مبتدعاً ضعيفاً في الحديث في الغالب ، إذا أحبَّ علياً وقدّمه ولم يسبّ ، وكذلك يعتبرون من تكلم في أحد الثلاثة أو طلحة أو الزبير أو عائشة دجالاً كذاباً ، أو رافضياً خبثاً ، لا يكتب حديثه ، ويرمونه بسب الصحابة جملة في التعبير . ومن روى فضيلة تستلزم في ظنهم نقص أحد المذكورين وسبهم بزعم القوم جرموه لأنّه عندهم يروي المثالب فكيف لو روى مثله حقيقة ، بل جرحوا من روى في معاوية : " إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه " ؟ ! وجرحوا فيه وفي عمرو : " اللّهم اركسهما في الفتنة " . وإن أراد مقبل أن لأهل الحديث مذهباً يتعصبون له لكنه عنده هو الحقّ ، فتعصبهم له تعصب للحق ، بخلاف غيرهم من أهل المذاهب فهم يتعصبون للباطل ؟ ! فالجواب : هذه دعوى ، وكل أهل المذاهب يدعون أنهم أهل الحقّ ، ولمن تعصبهم لمذهبهم صلابة في الدين ، فالتعليل الذي ذكره مقبل - يريد أنّهم الطائفة التي لا تزال على أمر الله فيما روى - تعليل بمجرد الدعوى ، فكأنه يقول : لا يزالون على أمر الله ; لأنّهم أهل أمر الله . ولا يزالون على الحقّ ; لأنّهم أهل الحقّ ، لأنّ أمر الله هو الحقّ ، والحقّ في الأُمة هو أمر الله . هذا . وإن أراد بأهل الحديث علماء السنة كُلّهم ، فيشكل عليه قوله : " ليس لهم مذهب يتعصبون له " فتخرج من كان زيدياً أو إمامياً أو شيعياً مطلقاً أو ناصبياً أو خارجياً أو عثمانياً أو وهابياً أو شبه ذلك من أهل أسماء المذاهب المشهورة ، حتّى المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي فمن هم أهل الحديث ؟ ! " تحرير الأفكار : 47 - 50 . ويضاف إلى ذلك اشكال آخر مفاده أنّ المحدّثين رووا عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " خير القرون قرني ثُمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم " نظم المتناثر من الحديث المتواتر 199 . مع أنهم يذكرون بان أغلب التابعين وتابعي التابعين كانوا مبتدعة ( راجع ترجمة أبان بن تغلب من الميزان 1 : 188 ) فكيف يوفق بين خيرية القرون وأنّها المفضّلة وبين انتشار البدعة فيها بشكل واسع وملحوظ ؟ ! ! ومن هذا العرض الموجز الذي ذكرناه تتضح المنهجية المتذبذبة التي يعيشها المذهب السنّي بمستوياته المختلفة من محدثين وفقهاء ومؤرخين .