فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده . وأيضا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئا عن الخلق وينسبه لنفسه فيكون له في ذلك شريك ، ألا ترى قوله عز وجل - قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله - ، وقوله - لا يجليها لوقتها إلا هو - ، وقوله - كل شئ هالك إلا وجهه - فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره ، وكذلك قوله تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله ) ولو كانت الواو في قوله ( والراسخون ) للنسق لم يكن لقوله ( كل من عند ربنا ) فائدة انتهى . قال القرطبي : ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره . فقد روى عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل ، وأنهم داخلون في علم المتشابه ، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به . وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم ، و ( يقولون ) على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخون كما قال :
الريح يبكي شجوه * والبرق يلمع في الغمامة وهذا البيت يحتمل المعنيين ، فيجوز أن يكون والبرق مبتدأ والخبر يلمع على التأويل الأول فيكون مقطوعا مما قبله ، ويجوز أن يكون معطوفا على الريح ، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعا انتهى . ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله ( يقولون آمنا به ) حالا من أن العرب لا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا ، وليس الأمر كذلك ، فالفعل مذكور ، وهو قوله ( وما يعلم تأويله ) ولكنه جاء الحال من المعطوف ، وهو قوله ( والراسخون ) دون المعطوف عليه ، وهو قوله ( إلا الله ) وذلك جائز في اللغة العربية . وقد جاء مثله في الكتاب العزيز . ومنه قوله تعالى - للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم - إلى قوله - والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا - الآية ، وكقوله - وجاء ربك والملك صفا صفا - أي وجاءت الملائكة صفا صفا ، ولكن ها هنا مانع آخر من جعل ذلك حالا ، وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح ، فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الاسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال لا في هذه الحالة الخاصة ، فاقتضى هذا أن جعل قوله ( يقولون آمنا به ) حالا غير صحيح ، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قوله ( والراسخون في العلم ) مبتدأ خبره ( يقولون ) ، ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم ، فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون ذلك ؟
ويجاب عن هذا بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به ، ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلا هو من رسوخهم ، لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ ، وناهيك بهذا من رسوخ . وأصل الرسوخ في لغة العرب : الثبوت في الشئ ، وكل ثابت راسخ ، وأصله في الأجرام أن ترسخ الخيل أو الشجر في الأرض ، ومنه قول الشاعر :
لقد رسخت في الصدر مني مودة * لليلى أبت آياتها أن تغيرا فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك اتباع المتشابه ، وإرجاع علمه إلى الله سبحانه . ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان : أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشئ وما يئول أمره إليه ، ومنه قوله - هذا تأويل رؤياي - ، وقوله - هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله - أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة ، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه إلا الله عز وجل ، ويكون قوله ( والراسخون في العلم ) مبتدأ ، و ( يقولون آمنا به ) خبره . وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشئ كقوله - نبئنا بتأويله - أي بتفسيره فالوقف على ( والراسخون في العلم ) لأنهم