في موضع خفض بدلا من الهاء في به : أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا . وقال في الكشاف : إن " ما " نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ، بمعنى شيئا اشتروا به أنفسهم ، والمخصوص بالذم أن يكفروا ، واشتروا بمعنى باعوا . وقوله ( بغيا ) أي حسدا . قال الأصمعي : البغي مأخوذ من قولهم قد بغى الجرح : إذا فسد ، وقيل أصله الطلب ولذلك سميت الزانية بغيا . وهو علة لقوله ( اشتروا ) وقوله ( أن ينزل ) علة لقوله ( بغيا ) أي لأن ينزل . والمعنى : أنهم باعوا أنفسهم بهذا الثمن البخس حسدا ومنافسة ( أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن " أن ينزل " بالتخفيف . ( فباءوا ) أي رجعوا وصاروا أحقاء ( بغضب على غضب ) وقد تقدم معنى باءوا ومعنى الغضب ، قيل الغضب ، الأول لعبادتهم العجل ، والثاني لكفرهم بمحمد ، وقيل كفرهم بعيسى ثم كفرهم بمحمد ، وقيل كفرهم بمحمد ثم البغي عليه ، وقيل غير ذلك . والمهين مأخوذ من الهوان ، قيل وهو ما اقتضى الخلود في النار . وقوله ( بما أنزل الله ) هو القرآن ، وقيل كل كتاب : أي صدقوا بالقرآن أو صدقوا بما أنزل الله من الكتب ( قالوا نؤمن ) أي نصدق ( بما أنزل علينا ) أي التوراة . وقوله ( ويكفرون بما وراءه ) قال الفراء : بما سواه . وقال أبو عبيدة : بما بعده . قال الجوهري :
وراء بمعنى خلف ، وقد يكون بمعنى قدام وهي من الأضداد . ومنه قوله تعالى - وكان وراءهم ملك - أي قدامهم ، وهذه الجملة أعني ويكفرون في محل النصب على الحال : أي قالوا نؤمن بما أنزل علينا حال كونهم كافرين بما وراءه مع كون هذا الذي هو وراء ما يؤمنون به هو الحق . وقوله ( مصدقا ) حال مؤكدة وهذه أحوال متداخلة أعني قوله ( ويكفرون ) وقوله ( وهو الحق ) وقوله ( مصدقا ) ثم اعترض الله سبحانه عليهم لما قالوا نؤمن بما أنزل علينا بهذه الجملة المشتملة على الاستفهام المفيد للتوبيخ : أي إن كنتم تؤمنون بما أنزل عليكم فكيف تقتلون الأنبياء وقد نهيتم عن قتلهم فيما أنزل عليكم ؟ وهذا الخطاب وإن كان مع الحاضرين من اليهود فالمراد به أسلافهم ، ولكنهم لما كانوا يرضون بأفعال سلفهم كانوا مثلهم . واللام في قوله ( ولقد ) جواب لقسم مقدر . والبينات يجوز أن يراد بها التوراة أو التسع الآيات المشار إليها بقوله تعالى ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) ويجوز أن يراد الجميع ثم عبدتم العجل بعد النظر في تلك البينات حال كونكم ظالمين بهذه العبادة الصادرة منكم عنادا بعد قيام الحجة عليكم .
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق ) قال : هو القرآن ( مصدق لما معهم ) من التوراة والإنجيل . وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري قال : حدثني أشياخ منا قالوا : لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منا ، لأن معنا يهود وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن ، وكانوا إذا بلغهم منا ما يكرهون قالوا : إن نبيا ليبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتبعناه وكفروا به ففينا والله وفيهم أنزل الله ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قالوا : كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم وكانوا يجدون محمدا في التوراة فيسألون الله أن يبعثه نبيا فيقاتلون معه العرب ، فلما جاء محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل . وقد روى نحو هذا عن ابن عباس من غير وجه بألفاظ مختلفة ومعانيها متقاربة . وروى عن غيره من السلف نحو ذلك . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله ( بئسما