وظهرت علامات النجابة على أبي الفري ، وتوسم فيه خاله أبو الفضل خيرا كثيرا ، فاشتدت عنايته به وحمله إلى الشيوخ ، واسمعه المسند وغيره من الكتب الكبار ، وأجازه بها .
وبقي ملازما لخاله حتى توفي رحمه الله وقد أفاد منه معرفة قوية بالحديث والنقل . ووصفه بقوله :
كان حافظا ضابطا متقنا ثقة من أهل السنة لا مغمز فيه ، وكان كثير الذكر سريع الدمعة . وقال : وهو الذي تولى تسميعي الحديث ، قرأت عليه ثلاثين سنة ، ولم استفد من أحد استفادتي منه .
وتتابع نهم ابن الجوزي للعلم وقوي ، واشتد ولعله بشتى العلوم ، فأخذ العلم عن شيوخه الأفذاذ في عصره يساعده على ذلك جلد قوي ، وحافظة واعية ، وذكاء متوقد ، حتى برع في كثير من العلوم فكان محدثا ، حافظا ، مفسرا ، فقيها ، واعظا ، أديبا ، مؤرخا . وألف في كل هذه العلوم وأكثر حتى حكيت في غزارة تآليفه الحكايات التي تكاد لا تصدق لكثرة إنتاجه وروعة تآليفه .
والحقيقة أنه لا غرابة أن ينتج هذا الإنتاج الغزير وهو الذي وجد حلاوة الإيمان ولذة العلم تفوقان كل حلاوة ولذة ، فكان يأخذ خبزه اليابس ويخرج في طلب الحديث ، حتى إذا جاع جلس إلى جانب الماء ، يأكل كسرة من الخبر اليابس ويشرب بعدها الماء ليسهل ابتلاعها ، ولابد أن هذا الزهد في الدنيا وما فيها من لذات قد ساعده على التحصيل .
وبقيت هذه حاله حتى علا شأنه ، وبرع ، وذاع صيته ، وقربه الامراء إليهم وعرفوا مكانته .
وقد أدرك ابن العماد سببا من أسباب نبوغ ابن الجوزي فذكره وقال عنه : وما تناول مالا من جهة لا يتيقن حلها ، ولا ذل لأحد . كما قال عنه : وكان يراعي حفظ صحته ، وتلطيف مزاجه ، وما يفيد عقله قوة وذهنه حدة .
ولقد أوتي حظا عظيما وصيتا بعيدا في الوعظ ، فكان يحضر مجالسه الملوك والوزراء وبعض الخلفاء والأئمة الكبراء ، وكان مجلسه لا ينقص عن ألوف كثيرة حتى قيل في بعض مجالسه : إنه حزر الجمع بمائة ألف .
وأصيب ابن الجوزي بحسد الحساد ودس الدساسين فسجن زمن الخليفة الناصر في واسط ، وكان في سجنه يدخل عليه الناس فيستمعون إليه ويملي عليهم ويعظهم ، وكان يرسل الاشعار الكثيرة إلى بغداد .
وبقي في سجنه ذاك سنين خمسا يقوم بخدمة نفسه وقد قارب الثمانين من عمره .
بقي الشيخ في سجنه من سنة ( 590 ) حتى سنة ( 595 ) ه حيث أفرج عنه ، فقدم بغداد ، واستقبله خلق كثير ، وخلع عليه الخليفة ، وعاد الشيخ إلى الوعظ والارشاد والكتابة ونشر العلم حتى توفاه الله ليلة الجمعة ( 12 رمضان سنة 597 ه ) بين العشاءين وقد قارب التسعين من العمر ، ودفن بباب حرب قرب مدفن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، وأوصى أن يكتب على قبره :
يا كثير العفو عمن * كثر الذنب لديه