وليعلم أن مثقال ذرة في هذه الدار من الخير ، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا ، وما عليها في دار النعيم المقيم ، من اللذات والشهوات . وإن الخير والبر في هذه الدنيا ، مادة الخير والبر في دار القرار ، وبذره وأصله وأساسه ، فوا أسفاه على أوقات مضت في الغفلات ، وواحسرتاه على أزمان انقضت في غير الأعمال الصالحات ، وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها ، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها من نفسها . فلك الأهم الحمد ، وإليك المشتكى ، وبك المستغاث ، ولا حول ولا قوة إلا بك . * ( واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) * وفي الأمر بالاستغفار ، بعد الحث على أفعال الطاعة والخير ، فائدة كبيرة . وذلك أن العبد لا يخلو من التقصير فيما أمر به ، إما أن لا يفعله أصلا أو يفعله على وجه ناقص . فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار ، فإن العبد يذنب آناء الليل ، والنهار ، فمتى لم يتغمده الله برحمته ، ومغفرته ، فإنه هالك . تم تفسير سورة المزمل والحمد لله . سورة المدثر * ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر ) * تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد ، وأن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالاجتهاد في عبادات الله القاصرة والمتعدية ، فتقدم هناك ، الأمر له بالعبادات الفاضلة والقاصرة ، والصبر على أذى قومه . وأمره هنا بالإعلان بالدعوة ، والصدع بالإنذار ، فقال : * ( قم ) * ، أي : بجد ونشاط * ( فأنذر ) * الناس ، بالأقوال والأفعال التي يحصل بها المقصود ، وبيان حال المنذر عنه ، ليكون ذلك أدعى لتركه . * ( وربك فكبر ) * ، أي : عظمه بالتوحيد ، واجعل قصدك في إنذارك وجه الله ، وأن يعظمه العباد ويقوموا بعبادته . * ( وثيابك فطهر ) * يحتمل أن المراد بالثياب ، أعماله كلها ، وبتطهيرها تخليصها والنصح بها ، وإيقاعها على أكمل الوجوه ، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات ، والمنقصات من شر ورياء ، ونفاق ، وعجب وتكبر وغفلة ، وغير ذلك ، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته . ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة ، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال خصوصا في الصلاة ، التي قال كثير من العلماء : إن إزالة النجاسة عنها ، شرط من شروطها : أي : من شروط صحتها . ويحتمل أن المراد بثيابه ، الثياب المعروفة ، وأنه مأمور بتطهيرها عن جميع النجاسات ، في جميع الأوقات ، خصوصا عند الدخول في الصلوات ، وإذا كان مأمورا بطهارة الظاهر ، فإن طهارة الظاهر ، من تمام طهارة الباطن . * ( والرجز فاهجر ) * يحتمل أن المراد بالرجز : الأصنام ، والأوثان ، التي عبدت مع الله ، فأمره بتركها والبراءة منها ، ومما نسب إليها ، من قول أو عمل . ويحتمل أن المراد بالرجز : أعمال الشر كلها ، وأقواله ، فيكون أمرا له بترك الذنوب ، صغارها وكبارها ، ظاهرها وباطنها ، فيدخل في هذا الشرك فما دونه . * ( ولا تمنن تستكثر ) * ، أي : لا تمنن على الناس ، بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية ، فتستكثر بتلك المنة ، وترى الفضل عليهم . بل أحسن إلى الناس ، مهما أمكنك ، وانس عندهم إحسانك ، واطلب أجرك من الله تعالى ، واجعل من أحسنت إليه وغيره ، على حد سواء . وقد قيل : إن معنى هذا ، ألا تعطي أحدا شيئا ، وأنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه ، فيكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم . * ( ولربك فاصبر ) * ، أي : احتسب بصبرك ، واقصد به وجه الله تعالى . فامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ربه ، وبادر فيه ، فأنذر الناس ، وأوضح لهم بالآيات البينات ، جميع المطالب الإلهية . وعظم الله تعالى ، ودعا الخلق إلى تعظيمه ، وطهر أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوء . وهجر كل ما يعبد من دون الله ، وما يعبد معه من الأصنام وأهلها ، والشر وأهله . وله المنة على الناس بعد منة الله من غير أن يطلب عليهم