نام کتاب : التفسير الوسيط للقرآن الكريم نویسنده : سيد محمد طنطاوي جلد : 1 صفحه : 189
بوقوعها ، أو أنهما لأهمّيّتهما يخبر عنهما بأنهما سيتلقيان بحسن الطاعة حتما ، فينزل ما يجب وقوعه منزلة الواقع ، ويخبر عن المأمور بأنه فاعل لما أمر به ومجتنب لما نهى عنه في الحال ، وفي ذلك ما فيه من إفادة المبالغة في وجوب امتثال الأمر والنهى . وقد تضمنت الآية الكريمة لونا فريدا من التوجيه المحكم الذي لو اتبعوه لحسنت صلتهم مع الخالق والمخلوق ، لأنها ابتدأت بأمرهم بأعلى الحقوق وأعظمها وهو حق اللَّه - تعالى - عليهم ، بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم ثنت ببيان حقوق الناس فبدأت بأحقهم بالإحسان وهما الوالدان لما لهما من فضل الولادة والعطف والتربية ، ثم الأقارب الذين تجمع الناس بهم صلة قرابة من جهة الأب والأم ، ورعايتهم تكون بالقيام بما يحتاجون إليه على قدر الاستطاعة ، ثم باليتامى لأنهم في حاجة إلى العون بعد أن فقدوا الأب الحانى ، ثم بالمساكين لعجزهم عن كسب ما يكفيهم ، ثم بالإحسان إلى سائر الناس عن طريق الكلمة الطيبة ، والمعاملة الحسنة ، لأن الناس إن لم يكونوا في حاجة إلى المال ، فهم في حاجة إلى حسن المقال ، ثم أرشدتهم إلى العبادات التي تعينهم على إحسان صلتهم بالخالق والمخلوق فأمرتهم بالمداومة على الصلاة بخشوع وإخلاص ، وبالمحافظة على أداء الزكاة بسخاء وطيب خاطر ، ولعظم شأن هاتين العبادتين البدنية والمالية ذكرتا على وجه خاص بعد الأمر بعبادة اللَّه ، تفخيما لشأنهما وتوكيدا لأمرهما ، وكان من الواجب على بنى إسرائيل أن ينتفعوا بهذه الأوامر الحكيمة ، لكنهم عموا وصموا عنها فوبخهم القرآن الكريم بقوله : * ( ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ) * . أى : ثم توليتم - أيها اليهود - عن جميع ما أخذ عليكم من مواثيق فأشركتم باللَّه وعققتم الوالدين ، وأسأتم إلى الأقارب واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش الأقوال ، وتركتم الصلاة ، ومنعتم الزكاة ، وقطعتم ما أمر اللَّه به أن يوصل . وقوله تعالى : * ( إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ ) * إنصاف لمن حافظ على العهد منهم ، حيث إنه لا تخلو أمة من المخلصين الذين يرعون العهود ، ويتبعون الحق ، وإرشاد للناس إلى أن وجود عدد قليل من المخلصين في الأمة ، لا يمنع نزول العقاب بها متى فشا المنكر في الأكثرين منها . وقوله تعالى : * ( وأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ) * جملة حالية تفيد أن الأعراض عن الطاعة ، وعدم التقيد بالمواثيق التي أقروا بها ، عادة متأصلة فيهم ووصف ثابت لهم ، وسجية معروفة منهم . قال صاحب المنار : « قد يتولى الإنسان منصرفا عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويوفيه حقه ، فليس كل متول عن شيء معرضا عنه ومهملا له على طول الدوام ، لذلك كان ذكر هذا القيد » وأنتم معرضون لازما لا بد منه ، وليس تكرارا كما يتوهم ، ثم قال : وقد كان سبب ذلك التولي مع الإعراض أن اللَّه أمرهم ألا يأخذوا الدين إلا من كتابه فاتخذوا أحبارهم أربابا من دون اللَّه ، يحلون برأيهم ويحرمون ، ويبيحون باجتهادهم ويحظرون ويزيدون في الشرائع
189
نام کتاب : التفسير الوسيط للقرآن الكريم نویسنده : سيد محمد طنطاوي جلد : 1 صفحه : 189