responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : مستدركات أعيان الشيعة نویسنده : حسن الأمين    جلد : 1  صفحه : 198


أن سيفا من سيوف المغول الجانية أودى به فيمن أودى بهم في رحاب نيسابور وسهول ايران لكان استراح . أما الآن فلن يستسلم للقدر الطاغي وسيثور على حكم الزمن الغاشم .
كان الطوسي ذا فكر منظم يعرف كيف يخطط ويدبر . وهو في ذلك آية من الآيات ، وقد أدرك أن النصر العسكري على المغول ليس ممكنا أبدا ، فقد انحل نظام العالم الإسلامي انحلالا تاما لم يعد معه أمل في تجميع قوة تهاجم المغول وتخرجهم من دياره ، وكانت البلاد المحتلة أضعف من أن تفكر في ثورة ناجحة . على أن الغرب الإسلامي كان لا يزال سليما ، وكانت مصر هي القوة الوحيدة التي تتجه إليها الأنظار ، وقد استطاعت مصر أن تذيق المغول مرارة الهزيمة وأن تردهم عنها ، ولكنها لم تكن مستطيعة أكثر من ذلك ، فمهاجمة المغول فيما احتلوه من بلاد بعيدة وإخراجهم من تلك البلاد كان فوق طاقة مصر .
وفكر نصير الدين طويلا فأيقن أنه إذا تم للمغول النصر الفكري ، بعد النصر العسكري ، كان في ذلك القضاء على الإسلام ، وها هو يرى بام عينيه الكتب تحرق والعلماء يقتلون ، فما ذا يبقى بعد ذلك ؟ . . لقد استغل حاجة هولاكو إليه ، وحرصه على أن يكون في معسكره فلكي عالم بالنجوم ، فعزم على كسب ثقته واحترامه فكان له ما أراد ، وصار له من ذلك سبيل لانقاذ أكبر عدد من الكتب وتجميعها ، كما استطاع أن ينجي من القتل الكثيرين ممن كانوا سيقتلون .
ولما استتب الأمر لهولاكو خطا نصير الدين خطوته الأولى ، وكانت هذه المرة خطوة جبارة فقد اقنعه بان يعهد إليه بالإشراف على الأوقاف الإسلامية والتصرف بمواردها بما يراه ، فوافق هولاكو . وتتطلع نصير الدين فرأى أن المسلمين كانوا قد وصلوا من الانحلال الفكري إلى حد أصبح العلم عندهم قشورا لا لباب فيها ، وأنهم حصروا العلم في الفقه والحديث وحدهما ، وحرموا ما عداهما من سائر صنوف المعرفة التي حث عليها الدين العظيم ، وانصرفوا عن العلوم العملية انصرافا تاما . فأعلن افتتاح مدارس لكل من الفقه ، والحديث ، والطب ، والفلسفة ، وأنه سيتولى الإنفاق على طلاب هذه المدارس ، ولكنه سيجعل لكل واحد من دارسي الفلسفة ثلاثة دراهم يوميا ، ولكل واحد من دارسي الطب درهمين ولكل واحد من دارسي الفقه درهما ، ولكل واحد من دارسي الحديث نصف درهم ، فاقبل الناس على معاهد الفلسفة والطب ، بعد ما كانت من قبل تدرس سرا .
أحرز نصير الدين النصر الأول في معارك الإسلام ، فالعلم لن ينقطع بعد اليوم ، ولن يجمد المسلمون عن طلبه ، ثم انصرف يخطط للمعركة الكبرى الكاسحة . فإذا كان إنشاء المدارس المتفرقة لن يلفت هولاكو إليها ، ولن يدرك أهميتها ، فان إنشاء الجامعة الكبرى وحشد العلماء فيها وحشر الكتب في خزانتها ، سيكون حتما منبها لهولاكو فكيف العمل ؟ .
هنا تبدو براعة الطوسي ، فهولاكو استبقاه لغاية معينة ، فراح يقنع هولاكو بأنه من أجل استمراره في عمله والاستفادة من مواهبه لا بد من إنشاء مرصد كبير ، فوافق هولاكو على إنشاء المرصد ، وفوض لنصير الدين المباشرة بالعمل . لقد كانت هذه الموافقة الحلم الأكبر الذي حققته الأيام لنصير الدين ، وبات بعدها مستريحا للمستقبل لا يشغله شيء إلا الاعداد الدقيق والتخطيط السليم الموصل إلى الغاية القصوى .
ضخم نصير الدين أمر المرصد لهولاكو وأقنعه أنه وحده أعجز من أن يرفع حجرا فوق حجر في ذاك البناء الشامخ ، وأنه لا بد له من مساعدين أكفاء يستند إليهم في مهمته الشاقة ، وأنه لا مناص من أجل ذلك من أن يجمع عددا من الناس المختارين ، سواء في البلاد المحتلة أو في خارجها ، فوافق هولاكو على ذلك .
وهنا هب نصير الدين إلى اختيار رسول حكيم هو فخر الدين لقمان بن عبد الله المراعي ، وعهد إليه بالتطواف في البلاد الإسلامية ، وتامين العلماء النازحين ودعوتهم للعودة إلى بلادهم ، ثم دعوة كل من يراه كفئا في عمله وعقله من غير النازحين .
مضى العمل منظما دقيقا وانصرف العلماء باشراف الطوسي منفذين مخططا مدروسا ، فلم يمض كبير وقت حتى كانت المكتبات تغص بالكتب ، وحتى كانت مكتبة مراغة بالذات تضم مجموعة قل أن اجتمع مثلها في مكتبة اخرى ، وحتى كانت المدارس تقام في كل مكان ، وحتى كانت الثقافة الإسلامية تعود حية سوية ، وحتى كانت النفوس مشبعة بالأمل والقلوب مليئة بالرجاء ، وحتى كان الدعاة ينطلقون في كل صوب والهداة ينتشرون على كل وجهة . . . ثم يموت هولاكو ، ولكن الإسلام الذي أراد له هولاكو الموت يظل صحيح البنية ، متوهج الفكر ، ثم يموت ابن هولاكو وخليفته ( ابقا خان ) والإسلام لا يزال بقيادة الطوسي صامدا ، يقاتل ويقاوم ويدعو ويهدي .
وياتي بعد ابقا خان ، ابن هولاكو الآخر ( تكودار ) فإذا بالإسلام ينفذ إلى قلبه وعقله ، وإذا به يعلن إسلامه وتسلم الدولة كلها بعد ذلك .
وكان الطوسي قد مات سنة 672 ه‌ ( 1274 م ) . مات قرير العين وهو يرى طلائع الظفر مقتحمة الدنيا بموكبها الرائع وبشائر النصر هازجة بارفع صوت وأعلى نبرة . مات الطوسي مودعا الأمر إلى تلميذه وأقرب المقربين إليه قطب الدين أبو الثناء محمود بن مسعود الشيرازي ، فنهض بالعبء على ما اراده نصير الدين . فلم يجد « تكودار » الذي أصبح اسمه « أحمد تكودار » خيرا من الشيرازي خليفة الطوسي ليكون رسوله إلى العالم العربي والإسلامي .
يقول الأستاذ عبد المتعال الصعيدي : « لم يمت نصير الدين إلا بعد أن جدد ما بلي في دولة التتار من العلوم الإسلامية وأحيا ما مات من آمال المسلمين بها » .
إلى أن يقول : « . . . ان الانتصار على التتار لم يكن في الحقيقة بردهم عن الشام في موقعة » عين جالوت « وإنما كان بفتح قلوبهم إلى الإسلام وهدايتهم له » .
وهذا ما حققه نصير الدين الطوسي .
هكذا استطاع نصير الدين الطوسي أن يهزم بالعقل والعلم الدولة الطاغية الباغية ، وأن تنجح خططه في تحويل المغول من وثنيين إلى مسلمين .

198

نام کتاب : مستدركات أعيان الشيعة نویسنده : حسن الأمين    جلد : 1  صفحه : 198
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست