فإن العدوّ قد نهد إليك وحثّ ، وغاية أصحابك أن يسرجوا ويلجموا قبل أن يروا سرعان الخيل ، فقام قحطبة مذعورا فلم ير شيئا يروعه ولم يعاين غبارا ، فقال لخالد : ما هذا الرأي ؟ فقال خالد : أيها الأمير ، لا تتشاغل بي وناد في الناس . أما ترى أقاطيع الوحش قد أقبلت وفارقت مواضعها حتى خالطت الناس ؟ إن وراءها لجمعا كثيفا . قال : فواللَّه ما أسرجوا ولا ألجموا حتى رأوا ساطع الغبار فسلموا ، ولو لا ذلك لكان الجيش قد اصطلم . وقال بعض الحكماء لبعض الملوك : آمرك بالتقدّم والأمر ممكن ، وبالإعداد لغد من قبل دخولك في غد كما تعدّ السلاح لمن تخاف أن يقاتلك وعسى ألا يقاتلك ، وكما تأخذ عتاد البناء من قبل أن تصيبه السماء وأنت تدري لعلها لا تصيبه ، بل كما تعدّ الطعام لعدد الأيام وأنت لا تدري لعلك لا تأكله . وكان يقال : كل شيء طلبته في وقته فقد مضى وقته . وقرأت في كتاب سير العجم أن فيروز بن يزدجرد بن بهرام لمّا ملك سار بجنوده نحو خراسان ليغزو اخشنوار ملك الهياطلة ببلخ ، فلما انتهى إلى بلاده اشتدّ رعب اخشنوار منه وحذره له ، فناظر أصحابه ووزراءه في أمره ، فقال له رجل منهم : أعطني موثقا وعهدا تطمئن إليه نفسي أن تكفيني أهلي وولدي وتحسن إليهم وتخلفني فيهم ، ثم اقطع يديّ ورجليّ وألقني على طريق فيروز حتى يمرّ بي هو وأصحابه فأكفيك مؤونتهم وشوكتهم وأورّطهم مورّطا تكون فيه هلكتهم . فقال له اخشنوار : وما الذي تنتفع به من سلامتنا وصلاح حالنا إذا أنت قد هلكت ولم تشركنا في ذلك ؟ قال : إني قد بلغت ما كنت أحبّ أن أبلغه من الدنيا وأنا موقنّ بأن الموت لا بدّ منه وإن تأخّر أياما قلائل ، فأحب أن أختم عمري بأفضل ما تختم به الأعمار من النصيحة لإخواني والنكاية في عدوّي فيشرف بذلك عقبى وأصيب سعادة ووحظوة فيما