< شعر > كلَّما كفكفت [1] منّي عبرة فاضت العين بمنهلّ درر [2] < / شعر > / قال : فتلاحيا جميعا فيما صنعاه من هذين الصّوتين ، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه : أنا أجود صنعة منك . فتنافرا [3] إلى ابن سريج فمضيا إليه بمكة . فلمّا قدماها سألا عنه ، فأخبرا أنه خرج يتطرّف [4] بالحنّاء في بعض بساتينها . فاقتفيا أثره ، حتى وقفا عليه وفي يده الحنّاء ، فقالا له : إنّا خرجنا إليك من المدينة لتحكم بيننا في صوتين صنعناهما . فقال لهما : ليغنّ كلّ واحد منكما صوته . فابتدأ معبد يغنّي لحنه . فقال له : أحسنت واللَّه على سوء اختيارك للشّعر ! يا ويحك ! ما حملك على أن ضيّعت هذه الصّنعة الجيّدة في حزن وسهر وهموم وفكر ! أربعة ألوان من الحزن في بيت واحد ، وفي البيت الثاني شرّان في مصراع واحد ، وهو قولك : < شعر > شرّ ما طار على شرّ الشّجر < / شعر > ثم قال لمالك : هات ما عندك ، فغنّاه مالك . فقال له : أحسنت واللَّه ما شئت ! فقال له مالك : هذا وإنّما هو ابن شهره ، فكيف تراه يا أبا يحيى يكون إذا حال عليه الحول ! قال دحمان : فحدّثني معبد أنّ ابن سريج غضب عند ذلك غضبا / شديدا ، ثم رمى بالحنّاء من يديه وأصابعه وقال له : يا مالك ، أليّ تقول ابن شهره ! اسمع منّي ابن ساعته ، ثم قال : يا أبا عبّاد أنشدني القصيدة التي تغنّيتما فيها . فأنشدته القصيدة حتى انتهيت إلى قوله : < شعر > تنكر الإثمد لا تعرفه غير أن تسمع منه بخبر < / شعر > فصاح بأعلى صوته : هذا خليلي وهذا صاحبي ، ثم تغنّى فيه ، فانصرفنا مفلولين مفضوحين من غير أن نقيم بمكة ساعة واحدة . نسبة هذه الأغاني كلها صوت < شعر > آب ليلي بهموم وفكر من حبيب هاج حزني والسّهر يوم أبصرت غرابا واقعا شرّ ما طار على شرّ الشّجر ينتف الرّيش على عبريّة [5] مرّة المقضم من روح العشر [6] < / شعر >
[1] كفكف دمع العين : ردّه . [2] درر : جمع درّة . والدرّة في الأمطار : أن يتبع بعضها بعضا ؛ قال النمر بن تولب : < شعر > سلام الإله وريحانه ورحمته وسماه درر < / شعر > أي ذات درر . وهو يريد بمنهل ذي درر . وقيل : الدرر : الدارّ ؛ كقوله تعالى : * ( ( دِيناً قِيَماً ) ) * أي قائما . [3] تنافرا : تحاكما . قال أبو عبيد : المنافرة : أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه ثم يحكَّما بينهما رجلا . [4] يتطرّف بالحناء : يخضب أطراف أصابعه به . [5] قال صاحب « اللسان » في مادة عبر : العبرية واحدة العبريّ وهو من السّدر ( شجر النبق ) ما نبت على عبر النهر وعظم ، منسوب إلى العبر بالكسر على غير قياس . وقال يعقوب : العبري والعمري منه ما شرب الماء والذي لا يشرب يكون بريا وهو الضال . وقال أبو زيد : العبري السدر وما عظم من العوسج ( والعوسج شجر من شجر الشوك وله تمر أحمر مدوّر كأنه خرز العقيق ) . وليس شيء من هذه المعاني يتفق وقوله في آخر البيت « من دوح العشر » . فلعله يريد سنا : على عبرية بكسر العين أي على شجرة من شجر العشر نابتة على عبر النهر . [6] قال أبو حنيفة : العشر من العضاه وهو من كبار الشجر له صمغ حلو وهو عريض الورق ينبت صعدا في السماء وله سكَّر يخرج من -