ومن الواضح أن هذه الصور الحاصلة المنطبعة بخصوصياتها في محل مادي مباينة للماهيات الخارجية ، فلا مسوغ للقول بالوجود الذهني وحضور الماهيات الخارجية بأنفسها في الأذهان . وجه الاندفاع : أن ما ذكروه - من الفعل والانفعال الماديين عند حصول العلم بالجزئيات - في محله ، لكن هذه الصور المنطبعة ليست هي المعلومة بالذات ، وإنما هي أمور مادية معدة للنفس تهيئها لحضور الماهيات الخارجية عندها بصور مثالية مجردة غير مادية بناء على ما سيتبين من تجرد العلم مطلقا [1] ، وقد عرفت أيضا [2] أن القول بمغايرة الصور عند الحس والتخيل لذوات الصور التي في الخارج لا ينفك عن السفسطة . الأمر الثالث : أنه لما كانت الماهيات الحقيقية التي تترتب عليها آثارها في الخارج هي التي تحل الأذهان بدون ترتب آثارها الخارجية ، فلو فرض هناك أمر حيثية ذاته عين أنه في الخارج ونفس ترتب الآثار كنفس الوجود العيني وصفاته القائمة به كالقوة والفعل والوحدة والكثرة ونحوها ، كان ممتنع الحصول بنفسها في الذهن ، وكذا لو فرض أمر حيثية ذاته المفروضة حيثية البطلان وفقدان الآثار كالعدم المطلق وما يؤول إليه ، امتنع حلوله الذهن . فحقيقة الوجود وكل ما حيثية ذاته حيثية الوجود ، وكذا العدم المطلق وكل ما حيثية ذاته المفروضة حيثية العدم يمتنع أن يحل الذهن حلول الماهيات الحقيقية . وإلى هذا يرجع معنى قولهم : ( إن المحالات الذاتية لا صورة صحيحة لها في الأذهان ) . وسيأتي إن شاء الله بيان كيفية انتزاع مفهوم الوجود وما يتصف به والعدم وما يؤول إليه في مباحث العقل والعاقل والمعقول [3] .
[1] راجع الفصل الأول من المرحلة الحادية عشرة . [2] في بدو هذا الفصل . [3] راجع الفصل الأول من المرحلة الحادية عشرة .