أنت على علم لا أعلمه أنا فأنصف ، وأما حكمة فراقه فلأن الرسول يقول الله فيه - * ( وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وما نَهاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا ) * - فوقف العلماء باللَّه الذين يعرفون قدر الرسالة والرسول عند هذا القول ) أي لزموه وامتثلوه ولم يتجاوزوا عنه ( وقد علم الخضر أن موسى رسول الله فأخذ يرقب ما يكون منه ليوفى الأدب حقه مع الرسل فقال له - * ( إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي ) * - فنهاه عن صحبته فلما وقعت منه الثالثة قال - * ( هذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ ) * - ولم يقل له موسى لا تفعل ولا طلب صحبته لعلمه بقدر الرتبة التي هو فيها التي أنطقته بالنهي عن أن يصحبه فسكت موسى ووقع الفراق ، فانظر إلى كمال هذين الرجلين في العلم وتوفية الأدب الإلهي حقه ، وإنصاف الخضر عليه السلام فيما اعترف به عند موسى حيث قال : أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ، فكان هذا الإعلان من الخضر لموسى دواء لما جرحه به في قوله - * ( وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً ) * - مع علمه بعلو مرتبته بالرسالة وليست تلك الرتبة للخضر ، فظهر ذلك في الأمة المحمدية في حديث آبار النخل فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه « أنتم أعلم بأمور دنياكم » ولا شك أن العلم بالشيء خير من الجهل به ، ولهذا مدح الله نفسه بأنه بكل شيء عليم ، فقد اعترف صلى الله عليه وسلم لأصحابه بأنهم أعلم بمصالح الدنيا منه لكونه لا خبرة له بذلك فإنه علم ذوق وتجربة ، ولم يتفرغ عليه الصلاة والسلام لعلم ذلك بل كان شغله بالأهم فالأهم ، فقد نبهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه ) اعلم أن الخضر عليه السلام صورة اسم الله الباطن ومقامه مقام الروح ، وله الولاية والغيب وأسرار القدر وعلوم الهوية والإنية والعلوم اللدنية ، ولهذا كان محتد ذوقه الوهب والإيتاء ، قال تعالى - * ( فَوَجَدا عَبْداً من عِبادِنا آتَيْناه رَحْمَةً من عِنْدِنا وعَلَّمْناه من لَدُنَّا عِلْماً ) * - ولكماله في علم الباطن لما بين لموسى عليه السلام تأويل ما لم يستطع عليه صبرا من الوقائع الثلاث . قال في الأولى - * ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها ) * - بالتقييد والإخبار عن تخصيص إرادته بعض ما في باطنه من معلوماته . وفي الثانية - * ( فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْه زَكاةً ) * - لجمع الضمير في الإرادة . وفي الثالثة - * ( فَأَرادَ رَبُّكَ ) * - بتوحيد الضمير والإخبار عن الإرادة الربانية الباطنة ، كل ذلك إشارة منه إلى سر التوحيد وأحدية الإرادة والتصرف والعلم في الظاهر والباطن