فإن الشئ قد يكون بديهيا ولكن يجهله الإنسان لفقد سبب توجه النفس ، فلا يجب ان يكون الإنسان عالما بجميع البديهيات ، ولا يضر ذلك ببداهة " البديهي " . ويمكن حصر أسباب التوجه في الأمور التالية : 1 - الانتباه ، وهذا السبب مطرد في جميع البديهيات [1] فالغافل قد يخفى عليه أوضح الواضحات . 2 - سلامة الذهن ، وهذا مطرد أيضا ، فإن من كان سقيم الذهن قد يشك في أظهر الأمور أو لا يفهمه . وقد ينشأ هذا السقم من نقصان طبيعي أو مرض عارض أو تربية فاسدة . 3 - سلامة الحواس ، وهذا خاص بالبديهيات المتوقفة على الحواس الخمس وهي المحسوسات ، فإن الأعمى أو ضعيف البصر يفقد كثيرا من العلم بالمنظورات ، وكذا الأصم في المسموعات ، وفاقد الذائقة في المذوقات . وهكذا . . . 4 - فقدان الشبهة [2] ، والشبهة : أن يؤلف الذهن دليلا فاسدا يناقض بديهة من البديهيات ويغفل عما فيه من المغالطة ، فيشك بتلك البديهة أو يعتقد بعدمها [3] . وهذا يحدث كثيرا في العلوم الفلسفية والجدليات ، فإن من البديهيات عند العقل : أن الوجود والعدم نقيضان وأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، ولكن بعض المتكلمين دخلت عليه الشبهة في هذه البديهة ، فحسب أن الوجود والعدم لهما واسطة وسماها " الحال " [4] فهما يرتفعان
[1] وهي الأوليات ، الفطريات ، الحدسيات ، المتواترات ، المجربات والمشاهدات ، وسيأتي الكلام عنها في البحث عن اليقينيات ص 282 . [2] لا يخفى عليك : أن عد فقدان الشبهة سببا من أسباب التوجه ، لا يخلو عن تسامح ، فإنه من قبيل عدم المانع ، لا من قبيل السبب والمقتضي . [3] ومن هنا يعلم أن هذا السبب يختص بالتصديقات البديهية . نعم هو مطرد فيها . [4] بما أنها ظرف الماهية قبل اتصافها بالوجود والعدم .