ومن مظاهر الصلة بين المذهب والمالية العامة : أن إيرادات الدولة اختلفت وظيفتها تبعاً لنوع الأفكار الاقتصادية المذهبية التي تأثرت بها ، ففي الفترة التي ساد فيها المذهب الرأسمالي بأفكاره عن الحرية ، كانت الوظيفة الأساسية للإيرادات هي تغطية نفقات الدولة ، بوصفها جهازاً لحماية الأمن في البلاد والدفاع عنها . وعندما بدأت الأفكار الاشتراكية تغزو الصعيد المذهبي أصبح للإيرادات مهمة أخرى أضخم ، وهي علاج سوء التوزيع والتقريب بين الطبقات وإقامة العدالة الاجتماعية ، وفقاً للأفكار الذي يغطي نفقاتها كجهاز ، بل توسعت في ذلك بقدر ما تفرضه المهمة الجديدة . فهذه المظاهر تبرهن على تكييف المالية العامة للمجتمع تبعاً لقاعدته المذهبية ، كما يتكيف القانون المدني ، الأمر الذي يجعل منها رصيداً لعملية الاكتشاف ، بوصفها طابقاً علوياً يشرف المكتشف منه على الطابق المتقدم أي على المذهب الاقتصادي . تلخيص واستنتاج : على أساس ما تقدم يصبح من الضروري أن ندرج عدداً من أحكام الإسلام وتشريعاته التي تعتبر بناءً فوقياً للمذهب في نطاق عملية اكتشاف المذهب ، وإن لم تكن داخلة كلها في صميم المذهب ذاته . ولأجل هذا سوف يتسع البحث في هذا الكتاب لكثير من أحكام الإسلام في المعاملات والحقوق التي تنظم العلاقات المالية بين الأفراد ، كما يتسع لبعض أحكام الشريعة في تنظيم العلاقات المالية بين الدولة والأمة وتحديد موارد الدولة وسياستها العامة في إنفاق الإيرادات ، لأن هذا الكتاب ليس كتاب عرض للمذهب الاقتصادي فحسب ، وإنما هو كتاب يحاول أن يمارس عملية اكتشاف لهذا المذهب ، ويحدد لهذه العملية أسلوبها وسيرها ومضمونها ونتائجها .