أنت أم مسكين ؟ فقال : لا واللَّه بل مسكين ، أي : أنا أسوأ حالا من الفقير ، وأخذ بقوله يعقوب بن السّكَّيت . ويروى عن الأصمعي أنه قال : المسكين أحسن حالا من الفقير ، وبذلك كان أبو جعفر أحمد بن عبيد يقول ، وهو القول الصحيح عندنا ، لأن اللَّه تعالى قال : * ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها ) * [1] ، فأخبر أن للمساكين سفينة من سفن البحر ، وهي تساوي جملة من المال . وقال تعالى : * ( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ الله لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ) * [2] فهذه الحال التي أخبر بها - تبارك وتعالى - عن الفقراء هي دون الحال التي أخبر بها عن المساكين . والذي احتج به يونس من أنه قال لأعرابي : أفقير أنت ؟ فقال : لا واللَّه بل مسكين ، يجوز أن يكون أراد : لا واللَّه بل أنا أحسن حالا من الفقير . والبيت الذي احتج به ليست له فيه حجة ، لأن المعنى : كانت لهذا الفقير حلوبة فيما مضى ، وليست له في هذه الحال حلوبة . والفقير معناه في كلام العرب : المفقور الذي نزعت فقره من ظهره ، فانقطع صلبه من شدّة الفقر ، فلا حال هي أوكد من هذه ، وقال الشاعر [3] : < شعر > لما رأى لبد النسور تطايرت * رفع القوادم كالفقير الأعزل < / شعر > أي : لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ، والدليل على هذا قول اللَّه عز وجل : * ( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) * [4] معناه : أو مسكينا لصق بالتراب من شدة الفقر ، فلما نعته عز وجل بهذا النعت ، علمنا أنه ليس كل مسكين على هذه الصفة . ألا ترى أنك إذا قلت : اشتريت ثوبا ذا علم ، نعته بهذا النعت ؛ لأنه ليس كل ثوب له علم ، فكذلك المسكين ، الأغلب عليه أن يكون له شيء ، فلما كان هذا المسكين مخالفا سائر المساكين ، بيّن اللَّه عز وجل نعته .
[1] سورة الكهف : آية 79 . [2] سورة البقرة : آية 273 . [3] البيت للبيد ، ديوانه ، ص 274 . [4] سورة البلد : آية 16 .