والآخر : أبو منصور هبة الله : ولد في ذي الحجة سنة أربع وسبعين وأربعمائة . وحفظ القرآن وتفقه وظهر منه أشياء تدل على عقل غرير ، ودين عظيم . ثم مرض وطال مرضه ، وأنفق عليه أبوه مالاً في المرض ، وبالغ . قال أبو الوفاء : قال لي ابني ، لما تقارب أجله : يا سيدي قد أنفقتَ وبالغتَ في الأدوية ، والطب ، والأدعية ، ولله تعالى في اختيارٌ ، فدعني مع اختياره . قال : فوالله ما أنطق الله سبحانه وتعالى ولدي بهذه المقالة التي تشاكل قول إسحاق لإبراهيم : " افعَل مَا تُؤمَرُ " الصافات : 103 ، إلاّ وقد اختاره الله تعالى للحظوة . توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة . وله نحو أربع عشرة سنة . وحمل أبو الوفا رحمه الله في نفسه من شدة الألم أمرًا عظيمًا ، ولكنه تصبَّر ، ولم يظهر منه جزع . وكان يقول : لولا أن القلوب توقن باجتماع ثانٍ لتفطرت المرائر لفراق المحبوبين . وقال في آخر عمره - وقد دخل في عشر التسعين ، وذكر من رأى في زمانه من السادات من مشايخه وأقرانه ، وغيرهم - : قد حمدتُ ربي إذْ أخرجني ولم يبق لي مرغوب فيه ، فكفاني صحبة التأسف على ما يفوت لأن التخلف مع غير الأمثال عذاب . وإنما هوّن فقداني للسادات نظري إلى الإعادة بعين اليقين وثقتي إلى وعد المبدئ لهم ، فلكأني أسمع داعي البعث قد دعا ، كما سمعتُ ناعيهم وَقَد نعى . حاشا المبدئ لهم على تلك الأشكال والعلوم أن يقنع لهم من الوجود بتلك الأيام اليسيرة ، المشوبة بأنواع التنغيص وهو المالك . لا والله ، لا قنع لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة تليق بكرمه : نعيم بلا ثبور ، وبقاء بلا موت ، واجتماع بلا فرقة ، ولدات بغير نغصة .