واستوحشوا من أوثق إخوانهم ، وشغلهم عظيم الأمر عن الالتفات إلى الدنيا وزهرتها ، وأزعجهم خوف الرحمن من مضاجعهم في حنادس الليالي وظلمتها ولا يشتهون من نعيم الدنيا حارا ولا باردا ، وصارت همومهم هما واحدا ، هيهات ! فأنى يسمح آخر الزمان بمثلهم ، فهم أرباب الإقبال وأصحاب الدول وقد انقرضوا في القرون الأول ، بل يعز أن يوجد في زماننا هذا عالم لا تكون له استطالة وخيلاء ، ولم يكن متكبرا على الفقراء ، ومتواضعا للأغنياء . فينبغي لكل عالم أن يتفكر في أحواله وأعماله وما أريد منه ، وفي عظم خطره حتى تنكسر نفسه ، ويظهر خوفه وحزنه ويبطل كبره وعجبه . وأما ( العجب بالعبادة والطاعة ) فعلاجه أن يعلم أن الغرض من العبادة هو إظهار الذل والانكسار ، وصيرورتهما ملكة للنفس ليحصل له معنى العبودية وحقيقتها ، فالعجب لمنافاته الغرض المقصود منها يبطلها ، وبعد بطلانها فلا معنى للعجب بها . وأيضا آفات العبادة الموجبة لحبطها كثيرة ، وكذلك شرائطها وآدابها التي لا يصح بدونها كثرة ، فيمكن أن تدخلها بعض الآفات أو تفقد عنها بعض الشرائط والآداب ، فلا تكون مقبولة عند الله ، ومع إمكان ردها وعدم قبولها كيف يعجب العاقل بها ؟ ومن يمكنه القطع بسلامة طاعاته وعباداته عن جميع الآفات ؟ ومن قطع بذلك فهو في غاية الجهل بحقائق الأمور ، على أن فائدة العبادة إنما هو إذا كان عند الله سعيدا ، ومن جوز أن يكون عند الله شقيا ، وقد سبق القضاء الإلهي بشقوته ، فأي نفع يتصور لعبادته حتى يعجب بها ؟ ولا ريب في أنه لا يخلو عبد عن هذا التجويز ، فما لأحد إلى العجب والتكبر في حال من الأحوال سبيل . وأما ( العجب بالورع ، والتقوى ، والصبر ، والشكر ، والسخاوة ، والشجاعة ، وغيرها من الفضائل النفسية ) : فعلاجه أن يعلم أن هذه الفضائل إنما تكون نافعة ومنجية إذا لم يدخلها العجب ، وإذا دخلها العجب أبطلها وأفسدها ، فما للعاقل أن يرتكب رذيلة تضيع ماله من الفضائل ، وأنى له لا يظهر الذلة والتواضع في نفسه حتى يزيد فضيلة على فضائلها ، ويختم لأجلها الجميع بالخير ، وتصير عاقبته محمودة ، وتكون مساعيه مقبولة مشكورة . وينبغي أن يعلم أن كل واحد من الفضائل التي يثبتها