ونقول : أمّا أولى المراتب وهي مرتبة المقتضي ، فظاهر أنّ المقتضي للشيء غير ذلك الشيء ، فلا يكون الجوع مرتبة من الأكل ، ولا السهر مرتبة من النوم ، وقد كان يصرّح في مجلس الدرس بأنه صرف اصطلاح منه ، وعليه فلا مشاحّة فيها ، ولكن لا يرتجى في المقام نفع منها . وكذلك أخراها فإنّها أثر للحكم ، واعتبار يلحقه بعد تماميّته بحكم العقل ، فكلتا المرتبتين ليستا في مرتبة الحكم ، إذ مرتبة المقتضي مقدّمة عليه تقدّم العلَّة على المعلول ، ومرتبة التنجّز متأخّرة عنه تأخّر المعلول عن العلَّة . فلم يبق - إذن - سوى المرتبتين المتوسّطتين ، وأولاهما هو ذلك الوجود الإنشائيّ الَّذي يوجد بنفس الأمر ، وليس موطنه الذهن ولا الخارج ، وليس مصداقا للطلب بالحمل الشائع ، ويجتمع مع نقيضه كما صرّح به ، ويكون فاقدا لحقيقة الحكم وما به قوامه ، وهذا نحو من الوجود لم نوفّق إلى اليوم لمعرفته . ومن لنا بتصوّر موجود خارج عن الوعاءين - الذهن والخارج - وتصوّر طلب ليس مصداقا لكلَّية بالحمل الشائع ، وحكم بلا بعث ولا زجر ، يجوز مخالفته حتى مع العلم ، أم كيف السبيل إلى التصديق بكون اللفظ موجدا للشيء ، وكيف نتوقّع من اللفظ الموضوع شيئا سوى الكشف عن إرادة ما وضع له ؟ وقد مرّ شطر من الكلام على ذلك في مسألة الوضع والاستعمال ، وشطر منه في مبحث الأوامر . فلم يبق إذن من الأربع إلاّ مرتبة الفعلية التي هي حقيقة الحكم ، أعني البعث والزجر ، وحينئذ يعود الحرب العوان بين الحكمين ، ولا تنجلي بعد اجتماع الضدّين إلاّ عن الكسر والانكسار بين الجهات . ولعلّ لكلّ هذا أو لبعضه لم يذكر هذا الوجه في الكفاية ، واقتصر فيها على جعل الحجّية التي لا تؤول إلى شيء من هذه المراتب ، ولا تبعد كثيرا من الوجه الأول من الوجوه السابقة ، على كلام في معنى جعل الحجّية ليس هذا