وأما ما ربما يتوهم هنا من : أن العلقة الوضعية لو لم تكن بين الألفاظ والمعاني على وجه الإطلاق فلا يتبادر شئ من المعاني منها فيما إذا صدرت عن شخص بلا قصد التفهيم ، أو عن شخص بلا شعور واختيار ، فضلا عما إذا صدرت عن اصطكاك جسم بجسم آخر ، مع أنه لا شبهة في تبادر المعنى منها وانتقال الذهن إليه في جميع هذه الصور فمدفوع : بأن تبادر المعنى فيها وانسباقه إلى الذهن غير مستند إلى العلقة الوضعية ، بل إنما هو من جهة الانس الحاصل بينهما بكثرة الاستعمال أو بغيرها ، وذلك لأن الوضع حيث كان فعلا اختياريا فصدوره من الواضع الحكيم في أمثال هذه الموارد التي لا يترتب على الوضع فيها أي أثر وغرض داع إليه يصبح لغوا وعبثا . الكلام في أقسام الوضع ثم إن الوضع بذلك المعنى الذي ذكرناه موافق لمعناه اللغوي أيضا ، فإنه في اللغة بمعنى : الجعل والإقرار ، ومنه وضع اللفظ ، ومنه وضع القوانين في الحكومات الشرعية والعرفية ، فإنه بمعنى : التزام تلك الحكومة بتنفيذها في الأمة . كما أنه بذلك المعنى أيضا يصح تقسيمه إلى التعييني والتعيني ، باعتبار أن التعهد والالتزام المزبور إن كان ابتدائيا فهو وضع تعييني ، وإن كان ناشئا عن كثرة الاستعمال فهو وضع تعيني ، وعليه فيصح تعريفه بتخصيص شئ بشئ وتعيينه بإزائه أيضا . هذا كله في بيان الأقوال في حقيقة الوضع ، وقد عرفت المختار من بينها . وأما الجهة الثالثة [1] : فملخص الكلام فيها : أن الوضع لما كان فعلا اختياريا للواضع بأي معنى من المعاني فسر توقف تحققه على تصور اللفظ والمعنى ، وعليه فالكلام يقع في مقامين : الأول : في ناحية المعنى . والثاني : في ناحية اللفظ .
[1] كذا ، والظاهر أنها هي الجهة الرابعة وهي مرحلة الثبوت .