وفيه : ان الممكن كما يحتاج في حدوثه إلى المؤثر كذلك يحتاج في بقائه إليه ، لأنه لا يخرج عن امكانه بالوجود ، ففي كل آن من الآنات بما أنه ممكن الافتقار من لوازم ذاته محتاج إلى المؤثر ليفيض إليه الوجود ، ومفتقر إلى مدد مبدعة الأول في كل حين والا لا نعمد ، بل بالنظر الدقى الحقيقي انه عين الحاجة لا شئ محتاج . فالانسان في كل حين - حتى حين الفعل - مفتقر إلى موجده ليفيض إليه الوجود وسائر المبادئ ، والا لما تمكن من ايجاد الفعل ، ويكون مثله تعالى ( ولله المثل الاعلى ) كتأثير القوة الكهربائية في الضوء ، فان الضوء لا يوجد الا حين تمده القوة بتيارها ويفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوة في كل حين . مع أن الله تعالى نفسه في مقام التشريع ، والتشريع لا يلائم التفويض ، إذ لا معنى للتكليف المولوي فيما لا يملك المولى منه شيئا . مع أن التفويض لا يتم الا مع سلب اطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه ، وقد قال سبحانه " له ملك السماوات والأرض " 1 ، وقال " له الملك وله الحمد " 2 ، وقال " لله ما في السماوات وما في الأرض " 3 . الامر بين الامرين إذا عرفت فساد قول هاتين الطائفتين - أي قول الجبرية والمفوضة - وشناعة تينك المقالتين ، فاعلم أن الحق هو القول بالامر بين الامرين الذي هو الخير كله . وقد مر تقريبه وتوضيحه بالمثال ، ففعل العبد الاختياري وسط بين الجبر والتفويض ، لأنه بعد ما عرفت من نفى الجبر والتفويض بالبرهان العقلي ، فالافعال الاختيارية الصادرة عن العباد بما أنها تصدر منهم بالاختيار وليس في صدورها منهم قهر واجبار ، فهم مختارون فيها ، والافعال
1 - سورة الحديد : 5 . 2 - سورة التغابن : 1 . 3 - سورة البقرة : 284 .