الثّاني داخلا تحت المجاز لزم أن يكون الأوّل أيضا كذلك مع أن فساد التّالي معلوم لعدم صدق المجاز عليه بل لا يشاركه في الحكم أيضا فلو شككنا في أنّ المقصود من الكلام إفادة الحكم أو لازمه فليس هنا أصل يرجع إليه كما لو شككنا في صدق الكلام وكذبه نعم إذا شككنا في القسم الأوّل وأنّ الكلام مسوق لإفادة المعنى أو لإفادة اللَّازم فالأصل هو الأوّل كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى فالثاني داخل في حكم المجاز وخارج عن حدّه بخلاف الأوّل فإنّه خارج عنهما فالأظهر في حسم الإشكالات على وجه جامع بين الكلمات ما اخترنا في تفسير الاستعمال وأنّ المقصود بالإفادة غير المستعمل فيه يتحدان ويتفارقان بتعدّد الأوّل دون الثّاني تنبيهات الأوّل إذا قامت قرينة على عدم إرادة المعنى الموضوع له لا أصالة ولا وصلة إلى الانتقال إلى اللَّازم مثل قوله فلان طويل النجاد إذا لم يكن له نجاد أو ممدود الظلّ في مقام بيان شجاعته أو علوّ شأنه ورفعة قدره فالظَّاهر خروجه عن الكناية المصطلحة لوجوب محافظة إرادة المعنى الحقيقي ولو صورة في جميع أقسامها كما اتضح فما ذكره التفتازاني من كونه كناية مبني على ما إذا أريد معنى الحقيقي وصلة إذ قد عرفت في الجواب عن الإشكال الثاني إمكان ذلك وأن الممتنع كون طول النجاد مراد بالأصالة نعم الظَّاهر عدم كونه مجازاً أيضا لا في الكلمة ولا في الكلام ولاستعمال كلّ من الألفاظ فيما وضعت له حتى المركب على القول بوضعه للإسناد لأنه قد استعمل في محلَّه فهو إمّا مجاز في الإسناد أو حقيقة ادعائية نظير قوله عليه السلام أنشبت المنيّة أظفارها الثاني أنه يجوز استعمال الكلمة كناية عن معنيين أو أزيد إذا كان بينها وبين الموضوع له المناسبة المصحّحة لها عند أهل اللَّسان فليس كاستعمال اللَّفظ في المعنيين على القول بمنعه لأنّ حقيقة الكناية وما شابهها ترجع إلى الأغراض والدّواعي الباعثة على الكلام المصدري لا إلى استعمال اللَّفظ في المعاني المتعدّدة وهل يتوقف جوازها على ترخيص الواضع كما هو الحال في استعمال اللَّفظ في المعاني المجازية فلو كني عن معنى غير معهود بين أهل اللَّسان نوعا أو صنفا كان غلطا من الاستعمال أم يجوز الكناية عن كلّ معنى بدا للمتكلَّم صرّح بعض المحققين بالثّاني وفيه نظر لأنّ وضع المحاورات من الحقائق والمجازات والكنايات ونحوها كلَّها على مجاري العرف والعادة وإن لم يلزم بلوغ الآحاد أو التّخصيص من الواضع وبالجملة الفرق بينها وبين المجازات مشكل الثالث أنّه كما يقصد في الإخبار إفادة غير المستعمل فيه فيختلف المقصود والمستعمل فيه مثل بعض أقسام الكناية ومثل الكلام المسوق لإفادة لازم الحكم كذلك يقصد في الإنشاء التّوصل إلى غير الموضوع له الَّذي استعملت فيه الكلمة فيستعمل صيغة افعل مثلا في الطَّلب ويكون المقصود منه حصول شيء غير المطلوب فهذا أيضا حقيقة لغوية وإن كان ملحقا بالمجاز في الافتقار إلى القرينة كما هو الشأن في الأوامر الابتلائية وبعض أوامر التقية على أحد الوجهين وأقواهما بل يمكن إرجاع أكثر ما ذكروه لصيغة افعل من المعاني العشرة أو أزيد إلى حقيقتها اللَّغويّة وهي الطَّلب بأن يكون الاختلاف بينها في المقصود لا في المستعمل فيه كما عرفت وسيجيء إن شاء الله تعالى لكن هذا موقوف على كون الطَّلب غير الإرادة وإلا فالاختلاف في موارد استعمالها حاصل في نفس المستعمل فيه دون الغرض ومثل صيغة افعل أدوات سائر الإنشاءات وأسمائها فيمكن إبقاء الاستفهامات والترجيات الواقعة في القرآن كلَّها على حقائقها اللَّغويّة بأن يكون الفارق بين الاستفهام الحقيقي وغيره هو الغرض دون المستعمل فيه وهكذا الترجي وبذلك يستغنى في دلالة آية التّحذير على وجوب الحذر عمّا ارتكبه صاحب المعالم وغيره من الحمل على الطَّلب الوجوبي لكونه أقرب المجازات بعد انسلاخ لعلّ عن الترجي وسيأتي تتمة الكلام في بابه إن شاء الله تعالى الرّابع أنّه لا شبهة في أنّ الأصل في الكلام عدم كونه مسوقا على وجه الكناية فلو دار الأمر بينها وبين سوقه لإفادة معناه الحقيقي حمل على الثاني وإن لم يكن في الأوّل تجوّز لأنّ وجوه مخالفة الأصل في الكلام ليست منحصرة في الأمور الرّاجعة إلى التصرّف في معاني الألفاظ فالكناية والمبالغة بأقسامها والتقية والسّهو والنّسيان وسائر وجوه خلاف الأصل الغير الراجعة إلى التصرف في الألفاظ كلَّها محتاجة إلى الدّليل الذي لولاه لحمل الكلام على خلافها بلا دليل لاستقرار طريقة العرف والعقلاء على ذلك فليس احتمال الكناية مثل احتمال الكذب في الكلام فإنّ احتمال الكناية مدفوع بالأصل عند عدم القرينة بخلاف احتمال الكذب وما قيل من أنّ مدلول الكلام هو الصّدق وأن الكذب احتمال عقلي يراد به غير ما يقضى به ظاهره من السّخافة فلو دار الأمر بين الكناية المقصود بها إفادة الملزوم واللَّازم معا وبين المجاز فالكناية أولى ولو دار الأمر بين الكناية المقصود بها اللَّازم خاصّة وبين المجاز ففي ترجيحها على المجاز اتباعا لأصالة الحقيقة أو التوقف لمعارضتها بأصالة انسياق الكلام إلى إفادة المستعمل فيه وجهان كالوجهين فيما إذا دار الأمر بين المجاز وكون الكلام سهويّا غير مقصود به الإفادة أصلا إلَّا أنّ الأظهر في الثاني تقديم أصالة عدم السّهو على أصالة الحقيقة بل الظَّاهر تقديم كلّ أصل يرجع إلى جهة الكلام على كلّ أصل يرجع إلى ألفاظه ولذا يجعل امتناع إرادة الحقيقة بقرينة مانعة عنها دليلا على إرادة المجاز فلو لا وجوب المحافظة على الأصول الجهتيّة عند كافة العرف لم يتجه ذلك كما لا يخفى على المتدرب وأيضا لو لم يبن علي تقديم الأصول الجهتيّة انسدّ باب التخصيص وسائر أبواب التصرّفات اللَّفظية المتعارفة في المحاورات بين أهل اللَّسان لأنّ التصرّف في جهة الخاصّ مثل حمله على وجه الإكراه أو الخوف أو التقية أو السّهو أو النّسيان أو التعريض