القضيّة المعقولة خاصّة أو مخالفة أحد القضيتين على البدل أو كلاهما معا أو غيرها من الاحتمالات المقصورة في المقام وممّا ذكرنا ظهر أنّ التورية لا يخرج الكلام عن الكذب مطلقا سواء قلنا بالكلام النفسي أو لا والعجب ممن قال بذلك وأن مناط الصّدق والكذب هو المعنى فإنّه لم يقل بالكلام النّفسي بل يعترف بانحصار الكلام في اللَّفظي كما تقول فكيف يكون إرادة المعنى النفسي سببا لصدق الكلام مع مخالفة ظاهره للواقع وإن قال به فله وجه إلا أن التحقيق خلافه فإن الصّدق والكذب من صفات اللَّفظ دون المعنى كالتثنية والجمع لا يقال الكلام النّفسي عبارة عمّا يوافق ظاهر الكلام من المعاني المعقولة لا كلَّما يخطر بالبال عند الكلام فالتورية لا يتوقف على الكلام النفسي الباطل لأنا نقول سلَّمنا ذلك مع وضوح فساده ضرورة اقتضائه الالتزام بثبوت قضيّتين معقولتين في ضمير المتكلَّم عند التورية إحداهما الكلام النفسي على القول به والأخرى التورية التي هي معقولة أخرى غيره لكنه غير مجد لمن أوجب مراعاتها فرارا عن الكذب إذ من الواضح البديهي كون الصّدق والكذب من صفات الكلام إمّا اللَّفظي كما هو الحق وإمّا النفسي كما يزعمه المجادل وأمّا الَّذي هو خارج عن حقيقة الكلام ولا دخل له في كلامية الكلام فوجوده مستدرك لا يجدي في تحقق عنوان الصّدق والكذب رأسا فلا وجه لوجوب مراعاتها عند الضّرورة نعم لا بأس بوجوبها تعبّدا شرعيّا لكنّه حسبما قلنا يحتاج إلى دليل ولا يساعده حديث تقدر الضّرورات بقدرها كما زعم والحاصل أن وجوب التورية يحتاج إلى دليل صريح ولا يقتضيه ما قالوا عن أن الكذب حرام لا يصار إليه إلَّا عند الضّرورة ولا ضرورة إليه إلا مع عدم إمكان التورية لكونها صدقا هذا كلَّه على ما يقتضيه القواعد العقليّة وأمّا الأدلَّة النقلية فقد استدلّ شيخنا العلَّامة بطائفة من الأخبار على صدق التورية بقوله ومما يدلّ على سلب الكذب من التورية ما روي في الاحتجاج أنه سئل الصّادق عليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجل في قضية إبراهيم عليه السلام بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون قال عليه السّلام ما فعل كبيرهم وما كذب إبراهيم عليه السلام قيل وكيف ذلك فقال إنما قال إبراهيم إن كانوا ينطقون أي إن نطقوا فكبيرهم فعل وإن لم ينطقوا فلم يفعل شيئا فما نطقوا وما كذب إبراهيم وسئل عن قوله تعالى أيتها العير إنكم لسارقون قال إنّهم سرقوا يوسف من أبيه وسئل عن قول اللَّه عزّ وجلّ حكاية عن إبراهيم إنّي سقيم قال ما كان إبراهيم سقيما وما كذب إنما عنى سقيما في دينه أي مرتابا وفي مستطرفات السّرائر من كتاب ابن بكير قال قلت لأبي عبد اللَّه الرجل يستأذن عليه يقول للجارية قولي ليس هو هاهنا فقال لا بأس ليس بكذب فإن سلب الكذب مبني على أن يكون المشار إليه بقوله هاهنا موضع خال من الدّار إذ لا وجه له سوى ذلك وروي في الحيل من كتاب الطلاق للمبسوط أنّ واحدا من الصّحابة صحب واحدا آخر فاعترضها في باب الطَّريق أعداء المصحوب فأنكر الصّاحب أنّه هو فأحلفوه فحلف لهم أنّه أخوه فلمّا أتى النبي صلى الله عليه وآله قال له صدقت المسلم أخ المسلم إلى غير ذلك ممّا يظهر منه ذلك انتهى وممّا يظهر منه ذلك ما عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد قال سمعت أبي عبد اللَّه عليه السلام يقول أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا إن الكلمة تتصرّف على وجوه فلو شاء إنسان تصرّف كلامه كيف شاء ولا يكذب قلت الظَّاهر المتراءى منها في بادي النظر وإن كان ما هو ذكره إلَّا أنّه عند دقيق النّظر لا يصلح شيء منها للاستناد به في المقام بل كلَّها قاصرة عن إفادة ذلك دلالة وحجية أمّا الفقرة الأولى ممّا في الاحتجاج وهي قوله عليه السلام في تفسير قوله تعالى بل فعله كبيرهم فنقول إن الإمام عليه السلام أراد أن يبيّن أن في قوله تعالى نوع ارتكاب لخلاف الظاهر حيث إنّ حاصل كلامه يرجع إلى أن قوله تعالى إن كانوا ينطقون شرط لقوله بل فعله كبيرهم لا لقوله فاسألوهم كما يقتضيه الظَّاهر فالآية على تفسير الإمام عليه السلام تكون هكذا بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم فالرّواية مسوقة لبيان تخلَّل جملة معترضة في البين في كلام اللَّه تعالى الحاكي عن كلام إبراهيم ومثله في القرآن أكثر كثير وأين هذا من التورية وأمّا الفقرة الثانية والثالثة فظاهرهما وإن كان هو التورية أيضا إلَّا أنّه لا مانع من حملهما على تفسير البطون فيحتمل أن يكون تفسير الإمام عليه السلام للآيتين مبنيّا على مراعاة البطون الَّتي لا تنافي للظاهر فيكون معنى ما ذكره الإمام عليه السلام لتفسير الآيتين بالباطن مع بقائهما على ظاهرهما ولا ضير فيه سوى لزوم الكذب في كلام الخليل والصديق على نبيّنا عليه السلام وهو بعد ما روي في بعض الأخبار من أنّ الكذب في بعض المقامات أحلى من العسل غير منافي وأمّا رواية ابن بكير فدلالتها على سلب الحكم أظهر من دلالتها على سلب الموضوع فهو نظير قوله لا غيبة للفاسق ضرورة أنّ سلب الموضوع هنا مبني على الإضمار والتقدير المخالف للأصل بأن يحمل قوله ليس هاهنا على مكان خاصّ وهو مخالف للأصل بل مقتضى الأخذ بظاهره حمله على الكذب السّائغ دون الحمل على موضع خاصّ حتى تكون تورية فلم لا يبقى على ظاهره ويحمل على الكذب السّائغ وأمّا قوله عليه السلام صدقت المسلم أخ المسلم فإنما هو توجيه من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في كلامه لا أنّه أراده وهو عين الحلف فقال له رسول اللَّه صدقت وذلك نظير قول القائل في جواب الأمير حين قال عتابا عليه لأحملنّك على الأدهم والأشهب مثل الأمير يحملني على الأدهم