responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : بحوث لفظية قرآنية نویسنده : عبد الرحمن العقيلي    جلد : 1  صفحه : 256

يأجوج ومأجوج

كائنات ما بعد الظهور

كثيرة هي الأمور التي ينكرها الإنسان، لا لسبب سوى أنها بعيدة عن حسّه، بينما قد تجد الأدلة والشواهد على وجودها كافية، وما هذا الإنكار إلا لصفة موجودة عند البشر بشكل عام وهي صفة الأُنس بالمحسوس، والخوف من الّلامحسوس،فمثلاً إن غالب البشر ينظرون بخوف إلى جثة الميت وهم يعلمون بأنه لا حول له ولا قوّة، بل وقد لا تجد أحداً من البشر قادراً على أن يستجمع شجاعته ليبيت بجانب تابوت الميت حتى الصباح وفي غرفة مُنارة!.

كذلك الخوف من الظلام، فغالبية البشر يعانون التوجس في الظُلمة، بل وبعضهم تنتابه أحلام اليقظة عندما يكون وحده في غرفة مظلمة، وما هذا إلا لما قلناه من أن هذه الصفة قد لا يخلو منها احد، ولكنها قد توجد بمستويات متفاوتة, فبعض الناس تظهر عليه بوضوح هستيري، وآخرون يتمالكون أنفسهم لدرجة ما ومن الأمور التي يصعب على الناس تصديقها إلى اليوم (على الرغم من الأدلة النقلية،السماوية وغيرها) هي مسألة وجود مخلوقات أخرى في الفضاء الخارجي, تشاركنا هذا الكون وقد تتّصل بنا أو تتعامل معنا، أو تتّجسس علينا من حيث لا نعلم او تتعامل مع بعض البشر على هذا الكوكب! من يدري؟!

إذ أن التقسيم الحديث لعالم الفضاء يقسم النجوم إلى مجموعات، والمجموعات إلى مجرّات فمثلا مجرة درب التبّانة (والتي يقع فيها كوكب الأرض) هي واحدة من عشرين مجرّة يجمعها اسم (المجموعة المحلية)([188]) والمسافات بينها في الفضاء تحتاج إلى أرقام فلكية لا تطيقها وحدات القياس المستخدمة داخل مجرة درب التبّانة (مجرتنا الأم)، إذ أن المسافات في الفضاء الخارجي تقاس بالسنة الضوئية،والسنة الضوئية هي عبارة عن مسافة تقاس بمسيرة الضوء بسرعته الفنطازية (300,000) كيلومتر في الثانية ولمدة سنة كاملة!!.

فإذا كان اقرب نجم إلينا يبعد 4,4 سنة ضوئية وهذا يمكن تصوره (نسبيّاً) فإن هناك أجراما فضائية تبعد عنّا مليارات السنين الضوئية!!

إذ استطاع علماء الفلك رصد بعضها على بعد 14 مليار سنة ضوئية! وهو أمر لا يستوعبه العقل، فمسافات أقل من هذا بنحو كبير لا يستطيع الإنسان بلوغها ولو كان عمره بضعة مئات من السنين وهو يطير في الفضاء من غير توقف! فكيف بمن يقول بان الوصول إلى اقرب المجرات يكلف الإنسان مليوني سنة (أو ستة آلاف مليار ميل!!) لقطعها بينما يحتاج إلى 30 مليار سنة ضوئية ليصل إلى ابعد مجرة مكتشفة!

وقد يكون سبحانه وتعالى أشار إلى هذا بقوله:

فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم ِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76) سورة الواقعة.

فالخالق سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان على الأرض، وهيأ له جميع ما يحتاج، وأشرك معنا مخلوقات كثيرة لا تعدُّ ولا تُحصى، فمنها ما نراها ومنها ما لا نراها، لكنه ثابت بالمحسوس ومن المخلوقات التي لا نراها بعضها مجهري يحتاج إلى التكبير آلاف المرات، وبعضها ضخم ولكنه غير مرئي، وهو من عجائب المخلوقات ممن ورد اسمه في القرآن الكريم والكتب السماوية إذ ورد اسم الشيطان والجان والجن والإنس (على فرض أن الإنس ليس هو الإنسان)، ووجود مخلوقات بحجم الإنسان وغير قابلة للرؤية لهو دليل على عدم المانع من وجود أمثال ذلك على غير الأرض، فمهما تكلم المادِّيون - وغير المؤمنين بحياة ما وراء الحسّ- عن عدم وجود مخلوقات على بعض الأقمار والكواكب التي نزلت عليها المسبارات الفضائية المأهولة وغير المأهولة، يبقى مثال المخلوق غير المرئي شاهداً على عدم المانع من ذلك، وكما قال ديموقريطس (إن اعتبار الأرض هي العالم الوحيد المأهول بالحياة في الفضاء اللا متناهي، هو اعتبار مجحف مخالف للعقل فمثله كمثل من يقول أن هناك حقلا قد زُرع بحبوب القمح فلم تنبت منه إلا حبة واحدة!).

على أن ما قالوه بشأن استبعاد وجود حياة أخرى على كوكب آخر، لا يعدو كونه تفكيرا ساذجا لما يجب أن يكون عليه الأمر، فقد قالوا بأن المجموعة الشمسية لا يمكن أن يكون فيها حياة أخرى وذلك للأسباب الآتية:

في كوكب عطارد، لا يمكن ذلك لصغر حجمه وقلة جاذبيته، وعليه لا يمكنه ذلك من الاحتفاظ بغلاف جوي, وإذا لم يكن له غلاف جوي لم تستطع المخلوقات من العيش عليه لعدم وجود الغازات القابلة للتنفس.

كوكب الزهرة: لا يمكن ذلك لحرارته العالية، وكثافة غلافه الجوي.

كوكب المريخ: لا يمكن ذلك لصغر حجمه، فيرِد عليه ما ورد على عطارد.

كوكب المشتري: وزحل وأورانوس ونبتون فهي كبيرة وباردة جدا، بما لا يمّكن أي مخلوق من العيش عليها.

كوكب بلوتو: لا يمكن ذلك لبعده عن الشمس, فهو بارد جدا([189]).

لكن أصحاب هذا التفكير نسوا أن يسألوا أنفسهم:لم قد افترضوا مسبقا بأن المخلوقات التي يبحثون عنها، يجب أن يكون لديها نفس التكوين الجسمي والفسيولوجي للمخلوقات الأرضية؟!

فكما وجد العلماء بعض أنواع البكتريا وهي تعيش في حمم البراكين، وبعضها يعيش تحت عدة طبقات من الجليد،بل ووجدوا بعض الكائنات المجهرية تعيش بلا أوكسجين وبلا ضوء *! فكذلك يمكن لأَشكال من الحياة العيش على الكواكب الباردة والحارة، وأما مشكلة الضغط الجوي فمن السهل افتراض مخلوقات خلقها الله بجهاز تنفسي قادر على تحمل كثافة الضغط الجوي في الكواكب الكبيرة، بل ومخلوقات لا تعيش على الأوكسجين وقادرة على التكيّف مع الغلاف الجوي الرقيق وعلى غازات أخرى في الكواكب الصغيرة, وما المانع من ذلك؟!

وأما ما زعموه من الظروف المثالية التي تمكّن المخلوقات من العيش (درجة حرارة مناسبة،جاذبية مناسبة, وجود الماء, الضوء.....) فهو لا يعدو عن كونه قياساً على المخلوقات الأرضية،وظروف عيشها المثالية، وإلا فوجود مخلوقات حيّة خرقت هذه الشروط واستطاعت العيش وسط ظروف مخالفة وقاسية، وعلى الأرض، لهو دليل على أن هذه الشروط ليست قاعدة لا تقبل المخالفة على الأرض فضلا عن الفضاء الخارجي.

مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الذين تكلموا بهذه الموانع، واخذ منهم المسلمون ذلك أكثرهم من القائلين بالمادة والتكيف الذاتي والانتخاب الطبيعي والقسري، إلى آخر القائمة التي لا تخلو إلا من وجود الله!

هذا فضلا عن الأدلة النقلية،عن صفوة من أولياء الله ممن كُشف لهم ملكوت السموات والأرض، فتركوا تراثا يدل على وجود الحياة بل والتكليف والعبادات على شعوب تلك الكواكب، ومن تلك الأدلة- الروايات الواردة بشأن ذلك:

ما نقله خسرو شاهي([190]) عن كتاب الاختصاص للمفيد(عن القصير قال: ابتدأني أبو جعفر (عليه السلام) فقال: أما إن ذا القرنين قد خير السحابتين فاختار الذلول، وذُخر لصاحبكم الصعب، فقلت: وما الصعب؟ فقال: ما كان من سحاب فيه رعد وصاعقة وبرق فصاحبكم يركبه، أما إنه سيركب السحاب ويرقى في الأسباب أسباب السماوات والأرضين السبع، خمس عوامر وثنتان خراب)..

ويدل هذا الحديث على إن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف سيرقى في الأسباب أي سيصعد في طرق السموات والأرضين السبع (الكواكب السبع), ووجود طرق للسموات والأرضين يدل على أن العلم لن يستطيع نقل الإنسان إلى الأجرام البعيدة، كالتي تكلمنا عنها، إلا بسلوك الطرق السماوية الخاصة التي خلقها الله للتنقل بين الكواكب وطي السموات بسرعة وأما بالوسائل التقليدية فذلك بعيد!.

فالسفر في الفضاء لا يكون إلا بطرق خاصة لطيِّ المسافات بين السموات، تختزل عامل الزمن إلى صالح عامل العمر الإنساني، مما لا يؤثر كثيرا على عمر الإنسان، ولا على حيويّة جسمه الضعيف بمرور هكذا عوامل، وهذا ما يشير إليه الحديث ظاهرا, وكما يشير الحديث بمجموعه عن وجود خمس كواكب عوامر أي مأهولة وعامرة واثنتين خراب أي غير مأهولة! واستُعمل لفظ (عامر) بالمعنى المزبور في القرآن في قوله:

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (التوبة:18).

ولما كان أهل البيت عليهم السلام هم ترجمان القرآن، وعدله، كان كلامهم امتداداً للقرآن في فصاحته، والمعنى وقد استعمل أهل البيت مصطلح (عوامر) بالمعنى نفسه المذكور إذ روى الشيخ الصدوق (سأل الحلبي أبا عبد الله عليه السلام عن قتل الحيّات، فقال: اقتل كل شيء تجده في البرية إلا الجان، ونهى عن قتل عوامر البيوت، وقال: لا تدعوهن مخافة تبعاتهن فإن اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله قالت: من قتل عامر بيت أصابه كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من تركهن مخافة تبعاتهن فليس مني، وإنما تتركها لأنها لا تريدك، وقال: ربما قتلتهن في بيوتهن) ([191])..

قال الراغب (وقوله (إنما يعمر مساجد الله) إما من العمارة التي هي حفظ البناء أو من العمرة التي هي الزيارة. أو من قولهم: عمرت بمكان كذا أي أقمت به لأنه يقال: عمرت المكان وعمرت بالمكان، والعمارة أخص من القبيلة وهي اسم لجماعة بهم عمارة المكان....والمعمر المسكن ما دام عامرا بسكانه.) ([192]) وهو يدل على أن العمران لا يكون إلا بان يؤهل المكان..

وقال الفيض الكاشاني إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (التوبة:18) إنما يستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، والعمارة يتناول بناءها، ورم ما استرمّ منها، وكنسها وتنظيفها وتنويرها بالسرج، وزيارتها للعبادة والذكر ودرس العلم، وصيانتها عما لم تبن لم كحديث الدنيا. ورد: (إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره). ([193])

وهو يدل على ما قلناه.

وقوله (خمس عوامر وثنتان خراب) راجع الى الأرضين السبع، والأرضون السبع ليست طبقات الأرض بل إن تسمية الحديث لها (أرض) يكفي لنعلم أنها ليست طبقة من الأرض، بل هي ارض كأرضنا، ويدل عليها الحديث الذي نقله صاحب البحار عن العياشي (بإسناده عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن عليه السلام قال: بسط كفيه ثم وضع اليمنى عليها فقال: هذه الأرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبة، والأرض الثانية فوق سماء الدنيا والسماء الثانية فوقها قبة، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقها قبة، حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال: والأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبة، وعرش الرحمن فوق السماء السابعة، وهو قوله سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن وإنما صاحب الأمر النبي صلى الله عليه وآله وهو على وجه الأرض وإنما ينزل الأمر من فوق من بين السماوات والأرضين) ([194]).

وهو واضح في المقصود ولا يحتمل التأويل. فالحديث يتكلم عن سبع قباب سماوية على سبع ارضين،والأرضون إذا كان المقصود بها طبقات متراكبة فالحديث لن يصح، إذ لم يبق إلا ما قلناه من أنها كواكب كروية، وعليه يستقيم الأمر من كونها كرات تحيطها سماوات على شكل قباب أي أنها كروية كما هي الأرض التي تحتها، وهذا موجود في كل الكواكب فالغلاف الجوي جزء رئيس من كل الكواكب المعروفة بل وحتى غير المعروفة، ولكنه يختلف باختلاف الكوكب، ومثال ذلك لما كانت المخلوقات الأرضية البرية - وهي التي تكون على تماس مع الغلاف الأرضي- تعيش على الأوكسجين فإن سبحانه وتعالى جعل مكونات الغلاف الأرضي كالتالي:

78% نتروجين

21% أوكسجين

0.9% أرغون

مقدار ضئيل من ثاني أوكسيد الكاربون

ومن هنا نعلم أن الضغط الجوي الضئيل على المريخ مثلا - (وهو 1من160) قياساً الى الأرض وتركيبة الغلاف الجوي للمريخ من غاز ثاني اوكسيد الكاربون (95%) والنتروجين (2-3%) والباقي أوكسجين وأرغون - تكون غير صالحة لعيش الإنسان لأن جهازه التنفسي غير مخلوق لهكذا غازات، ولكنه ليس كذلك لمخلوقات أخرى خلقها الله لهذا الغلاف الجوي فكما نرى أن المخلوقات البحرية لا تستطيع تنفس الأوكسجين مباشرة من الهواء بل أنها تقوم بتصفيته مذابا من الماء، فكذلك ما كان على غير الأرض فهو أولى بعدم المناسبة!

على أن الذي يستحق الوقوف عنده هو تكرار هذا الحديث وفي عدة روايات ذكر الرقم سبعة كعدد للكواكب، وهذا مخالف حتى لعلم الهيئة الذي كان سائدا في القرون الإسلامية الأولى والذي يشير إلى ستة كواكب مع الأرض!حتى (قالوا) إنهم اكتشفوا يورانوس عام 1781 ونيبتون عام 1840 وبلوتو عام 1930، ثم رجع علماء وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) وفي عام2008م ونفوا كون (بلوتو) من الكواكب السيارة! واقروا بخطئهم طوال ثمانين سنة إذ ظهر أن (بلوتو) كان قمرا تابعا وليس كوكبا!

مما يجعلنا نقارن بين الثبات للنصوص الدينية الموروثة عن المعصومين عليهم السلام وإصرارهم على أن الكواكب سبعة فقط طوال قرون طويلة، وبين ادِّعاء الاكتشاف ثم التراجع في غضون قرن واحد.

وكذلك حقيقة ما تكلم به القرآن عن سبعة ارضين بقوله تعالى:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (الطلاق:12)

ولعلنا نستدل كذلك - على عدد الكواكب السبعة - بحديث الإمام الكاظم عليه السلام([195]) عندما (بسط كفيه ثم وضع اليمنى عليها فقال: هذه الأرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبة، والأرض الثانية فوق سماء الدنيا والسماء الثانية فوقها قبة، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقها قبة، حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال: والأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبة)..

وما روي في الخصال عن الإمام الحسين بن علي عليهم السلام قال(كان علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام فسأله عن مسائل فكان فيما سأله أن قال له: يا أمير المؤمنين أخبرني عن ألوان السماوات وأسمائها؟ فقال له: إن اسم السماء الدنيا رفيع وهي من ماء ودخان، واسم السماء الثانية قيدوم وهي على لون النحاس، والسماء الثالثة اسمها الماروم وهي على لون الشبه، والسماء الرابعة اسمها أرقلون وهي على لون الفضة، والسماء الخامسة اسمها هيفون وهي على لون الذهب، والسماء السادسة اسمها عروس وهي ياقوتة خضراء، والسماء السابعة اسمها عجماء وهي درة بيضاء) ([196])..

وهذه الألوان تتطابق مع ألوان سبعة كواكب من المجموعة الشمسية!.

ومن الروايات الدالة على سكنى الكواكب ما رواه محمد بن الحسن الصفار([197]) في بصائر الدرجات (عن ابن سعيد الهمداني قال قال الحسن بن علي عليه السلام إن لله مدينة في المشرق ومدينة في المغرب، على كل واحد سور من حديد، في كل سور سبعون ألف مصراع، يدخل من كل مصراع سبعون ألف لغة آدمي، ليس منها لغة إلا مخالف الأخرى، وما فيها لغة إلا وقد علمناها وما فيهما وما بينها ابن نبي غيري وغير أخي وأنا الحجة عليهم)..

فقوله (مدينة في المشرق.... ومدينة في المغرب) قد لا يدل على أرضية هذه المدن بقدر دلالته على فضائيتها.

و المشرق هو مكان تواجد الشمس، لذلك فهو يشير إلى أحد الكواكب الداخلية في المجموعة الشمسية، والتي تقع بين كوكب الأرض والشمس (مثل عطارد والزهرة) أما المغرب فهو المكان الذي تقع فيه الكواكب الخارجية (مثل المشتري وزحل ونبتون) وعليه فهاتان المدينتان تقعان واحدة منهما في احد الكواكب الخارجية والأخرى في احد الكواكب الداخلية..

وروى محمد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات (عن قلقلة عن أبي جعفر عليه السلام قال إن الله خلق جبلا محيطا بالدنيا من زبرجد أخضر، وإنما خضرة السماء من خضرة ذلك الجبل وخلق خلقا ولم يفرض عليهم شيئا مما افترض على خلقه من صلاة وزكاة...) ([198]).

وهو واضح بان لله خلقا لم يكلفهم بتكاليف العبادات وغيرها مما افترضها على عباده في كوكب الأرض, وهذا قد يرجع لتخلفهم الفكري إلى درجة أنهم لا يفقهون التكليف ولم تقم عليهم الحجة بذلك.

وروى محمد بن الحسن الصفارعن أبى صالح قال:

(سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قبة آدم فقلت له هذه قبة آدم فقال نعم، ولله قباب كثيرة، أما أن خلف مغربكم هذا تسعة وثلثين مغربا أرضا بيضاء ومملؤة خلقا يستضيئون بنورنا،لم يعصوا الله طرفة عين لا يدرون اخلق الله آدم أم لم يخلقه....) ([199]).

وهو واضح في إنه قصد بالمغرب جهة الكواكب الداخلية أي التي تكون فيها الشمس وقت الغروب، فمن المعلوم أن الأرض عند دورانها حول الشمس تتسبب في سقوط أشعة الشمس على نقطة معينة على سطح الأرض، وحين تواصل الأرض دورانها فهي تتسبب في أن تنحسر هذه الأشعة عن النقطة المزبورة، وبالتالي فالشمس لا تغرب في الحقيقة بل إن النقطة المعينة هي التي تغرب وتهرب عن مسقط الأشعة وهذا هو غروب الشمس..

كما تحدثت الرواية عن تسعة وثلاثين أرضا (قباب!) وهو وصف لطيف للأرض فالأرض من فوق القمر تُشاهد على هيأة نصف كرة غير نظامي وكذلك من الأسفل، فالقبة هي نصف كرة وكل كوكب هندما يُرى في الفضاء فهو قبة لأن نصفه الملاقي للشمس مضيء ونصفه الثاني مظلم فهو قبة في الحقيقة!

3-6.bmp

الأرض قبة في السماء

كما يوضح الحديث كون هذا الخلق لا يخطأ، فهو قد وصل من السير في طريق الطاعة لله درجة العصمة وقوله (يستضيئون بنورنا) يؤكد هذا الفهم، فالناس عندما يصلون درجة المجتمع المعصوم على يد الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف يستضيئون عندها بلا شمس وهو تفسير الآية الكريمة {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (الزمر: من الآية69) إذ روى القُمّي في تفسيره([200]) (قوله: (وأشرقت الأرض بنور ربها) حدثنا محمد بن أبي عبد الله عليه السلام قال: حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثني القاسم بن الربيع قال: حدثني صباح المدائني قال: حدثنا المفضل بن عمر انه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول في قوله: وأشرقت الأرض بنور ربها قال رب الأرض يعني إمام الأرض، فقلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: إذا يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزون بنور الإمام).

فالظاهر إن الخلق الذي يعيش على الكواكب التي ذكرها الإمام عليه السلام قد وصلوا الى مستوى من التسليم والطاعة بما شكل خطوة واسعة نحو العصمة والاستضاءة بنور الأئمة عليهم السلام..

وروى المجلسي (عن أبي حمزة: قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام ليلة وأنا عنده ونظر إلى السماء فقال: يا أبا حمزة، هذه قبة أبينا آدم عليه السلام وإن لله عز وجل سواها تسعة وثلاثين قبة فيها خلق ما عصوا الله طرفة عين)([201]). فانظر لقوله (هذه قبة أبينا آدم) و(هذه) تستعمل للقريب وهو يشير هنا إلى الأرض أما الأخريات فهن (تسعة وثلاثين قبة).

وقال المجلسي (روى البرسي في (مشارق الأنوار) عن الثمالي عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: إن الله خلق محمدا وعليا والطيبين من ذريتهما من نور عظمته وأقامهم أشباحا قبل المخلوقات، ثم قال: أتظن أن الله لم يخلق خلقا سواكم؟ بلى والله! لقد خلق الله ألف ألف آدم، وألف ألف عالم، وأنت والله في آخر تلك العوالم.). ([202])

ولم يظهر من الحديث معنى قوله عليه السلام (وأنت والله في آخر تلك العوالم) أهذا التأخر تأخر زماني أم تأخر تقني حضاري أم تأخر روحي؟ فكل هذا ظل مسكوتاً عنه ولا دليل على احد احتمالاته إلا الاحتمال الأخير الذي قد يكون له ما يؤيده من أحاديث تتكلم عن موحدين لا يشركون بالله طرفة عين.

وقال المجلسي (وروى من كتاب الواحدة عن الصادق عليه السلام أن لله مدينتين: إحديهما بالمغرب، والأخرى بالمشرق، يقال لهما جابلقا وجابرسا، طول كل مدينة منهما اثنا عشر ألف فرسخ، في كل فرسخ باب، يدخلون في كل يوم من كل باب سبعون ألفا، ويخرج منها مثل ذلك، ولا يعودون إلى يوم القيامة، لا يعلمون أن الله خلق آدم، ولا إبليس، ولا شمس، ولا قمر، هم والله أطوع لنا منكم، يأتونا بالفاكهة في غير أوانها، موكلين بلعنة فرعون وهامان وقارون) ([203])..

وروى حمد بن الحسن الصفار في بصائره (حدثنا محمد بن عيسى عن يونس عن عبد الصمد عن أبي جعفر عليه السلام قال سمعته يقول إن من وراء هذه أربعين عين شمس ما بين شمس إلى شمس أربعون عاما فيها خلق كثير ما يعلمون ان الله خلق آدم أولم يخلقه وان من وراء قمركم هذا أربعين قمرا ما بين قمر إلى قمر مسيرة أربعين يوما فيها خلق كثير ما يعلمون أن الله خلق آدم أولم يخلقه...) ([204])

وهو واضح الدلالة.


رحلة ذي القرنين والفضاء الخارجي

إن أول من أشار إلى أن رحلة ذي القرنين قد تكون رحلة في الفضاء الخارجي، هو الدكتور عبد الستار أسميّر الرجبو الموصلي وذلك في بداية التسعينيات (1993) في كتابه (رحلة بين الحقيقة والخيال في سيرة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج) وظل هذا الأمر مثار شكوك كثيرة، إذ أثار الرجبو أثار أسئلة أكثر مما أجاب منها, إذ انه لم يجزم بأي من أجزاء القصة التي استنبطها من القرآن (على الرغم من متانتها), بل انه كان يعطي رؤوس أقلام لمن يأتي بعده، ونعم ففي نهاية التسعينيات شهدنا الباحث عالم سبيط النيلي وهو يطوّر نظرية الرجبو ويسد الكثير من الثغرات التي عانت منها، وأضاف إليها الكثير، على الرغم من أنه ارتكز على المرتكزات نفسها التي انطلق منها الرجبو، رغم نفي أتباعه لذلك - وأنا من قراءتي للكتابين استبعد كثيرا عدم اطلاع النيلي على كتاب الرجبو - ولكن رغم ذلك بقيت بعض الاستدلالات تحتاج إلى زيادة مناقشة وتتميم وابتكار، فعالم سبيط النيلي قد اغفل نقاطا كثيرة في بحثه الذي أودعه في كتابه (الطور المهدوي) وهذه صفة البشر إذ لا يكمل منهم إلا الذين رحمهم الله وانعم عليهم, وما سنفعله هو تدارك الثغرات التي ظلت من غير إجابات، ومحاولة ابتكار بعض النظريات المحتملة في نفسها والتي لها ما يبررها ويسندها حتى تكتمل الفكرة الأصلية ونكون قد دفعنا نحو الأمام وأعطينا من يأتي بعدنا قدراً كافياً ليضيف هو كذلك ما يستطيع إضافته.

إن اسم ذي القرنين ورد في القرآن في ثلاثة موارد جمعتها الآيات الكريمة في سورة الكهف من الآية 83 الى الآية 99 قال تعالى:

وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً(83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً(84) فَأَتْبَعَ سَبَباً(85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً(86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً(87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً(88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً(90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (99) صدق الله العلي العظيم

لعل القارئ لهذه الآيات الكريمة سيقف على جملة أمور منها:

إن الآيات تنقسم الى أربع مجوعات، أو أن الرحلة التي بدأها ذو القرنين تنقسم إلى أربع مراحل*:

المرحلة الأولى: في قوله تعالى:

وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً(83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً(84) فَأَتْبَعَ سَبَباً(85).

والملاحظ على هذه المرحلة أنها رحلة أرضية محضة، فقوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ يدل على ذلك من غير لبس، وكمسألة طبيعية فإن الله سبحانه عندما يسخّر نِعَمَه لأحد من أهل الأرض فسيبدأ من الأرض طبعاً، وقوله تعالى: وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً يؤكد ذلك, فسبحانه قد آتى ذا القرنين وسائلاً لتحقيق هذه النعمة والاجتباء الرباني و(السبب هو الدليل)([205]) فذو القرنين يملك مفاتيح العلوم، والتي بواسطتها فعل ما لم يفعله احد قبله في الأرض، فذو القرنين كان يستنير بدليل الهي لحكمة إلهية وليس الأمر اعتباطاً، فالأقوام الذين مر بهم كان مقدرا من الله أن يمر بهم ولم يذهب إليهم لخطأ في تحديد المسار أو بالمصادفة أو ماشابه!

وقوله سبحانه (فاتبع) بفاء التفريع يدل على مواصلة الرحلة الأرضية بدون توقف، بل إنها كانت رحلة متواصلة.

المرحلة الثانية: في قوله تعالى:

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً(86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً(87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً(88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89).

وهذه الرحلة ليست في الأرض حتما، للأدلة الروائية المستفيضة والتي تخرج الرحلة من أرضيتها إلى غيرها، واللطيف في هذه الآيات هو قوله (وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً) وتعبيره بـ(عندها) يفيد انه ليس فيها فمهما كانت تلك العين (كوكبا أو نجما أو مذنبا) فالقوم الموجودون (عندها) لم يكونوا على ظهرها أو فيها وإلا لصرح بذلك كما صرح في قوله:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة:30).

فهنا يقول سبحانه فِي الْأَرْضِ ولم يقل (عند الأرض).

وفي قوله:

يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ (ص:26).

وهنا يقول سبحانه فِي الْأَرْضِ ولم يقل (خليفة عند الأرض)

وكذلك الأمر في قوله تعالى:

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (الفرقان:63).

وفي قوله تعالى:

وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (نوح:26).

وقال سبحانه وتعالى عندما تكلم عن مريم عليها السلام:

كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً (آل عمران: من الآية37).

وتكلم عن جنة المأوى قال سبحانه وتعالى:

وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (النجم:13-15).

فاستعمل (عندها) لأنها ليست فيها بل بقربها هنا نعلم أن ما أفاده عالم النيلي كان خطأً واضحاً إذ قال (لقد تحرك باتجاه الشمس لحظة غروبها إذن فهو متجه نحو مدار الزهرة ... الزهرة مشابهة للأرض حجما وسنتها قريبة من سنة الأرض... ووجد فيها قوما بطور يقرب من طور الأرض...إذن فقوله (فوجد عندها) عند الأرض أي الكرة الأرضية)([206])..

فالنيلي قرر أن ذا القرنين سافر إلى الزهرة، ووجد هؤلاء القوم فيها والصحيح هو أنهم عندها(لو كان الكوكب هو الزهرة فعلا) وليس فيها, أي أنهم – لو صحت فرضية كوكب الزهرة – فهم على قمر تابع لها وليس على ظهرها.

المرحلة الثالثة: في قوله تعالى:

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً(90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92).

وخصائص هذه المرحلة تشابه خصائص المرحلة الثانية، فكلتاهما ليستا في الأرض (وسنأتي على الأدلة الروائية المتظافرة على ذلك)..

والملفت للنظر، انه سبحانه وتعالى استعمل هنا مفردة (مطلع) ولم يقل (مشرق) ثم قال (وجدها تطلع) ولم يقل (وجدها تشرق) مع انه سبحانه استعمل الإشراق وهو يقصد اسم المكان الذي تُشاهد منه الشمس نحو قوله تعالى:

في سورة البقرة:

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (البقرة:142).

وفي سورة البقرة أيضا:

قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة: من الآية258).

وفي ذلك نكتة دقيقة،إذ أن الإشراق والطلوع يختص كل منهما بمقام خاص به، وليس الأمر كما قال الراغب الأصفهاني (شرق: شرقت الشمس شروقاً: طلعت)([207]) فلو لم يكن المعنيان مختلفين لم يستعمل سبحانه كلٍ بمجال خاص! ولو كان المعنيان مترادفين لم يكن للآية القرآنية سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (القدر:5) أي معنى! وكأنك تقول (أشرق الفجر) بينما المعروف أن الفجر من الشق، والفجر هنا هو: شق الليل([208]) وهو غير الإشراق بالتأكيد, وهذا معروف من اسمه (فجر) وهو من تفجّر أشعة الشمس وشقها للأفق قبل شروق الشمس لذا استعمل التفجير مع الأرض في القرآن كثيرا، قال تعالى:

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً (الكهف:33).

وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (يّـس:34).

وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (القمر:12).

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (البقرة:60) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (الإسراء:90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (الإسراء:91).

من هنا نرجّح بأن استعمال (مطلع) و(مغرب) يراد بها ليس جهة خروج الشمس من مكان معين، بل لأنها ظاهرة بينة في تلك الجهة، وهذا لا يكون على الأرض إلا بقيد وهو أن يكون الوقت تالياً لشروق الشمس (أي الضحى) وقبل غروبها، إذن فالشروق هو عملية صعود الشمس في السماء للرائي من جهة المشرق من خط الأفق، ثم تتلوها عملية الطلوع وهي عملية صعود الشمس في السماء بعيدا عن خط الأفق لذا قال تعالى:

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً (الكهف:17).

فاستعمل (طلعت) ولم يقل (أشرقت) لكونها في وقت الإشراق لا تستطيع أن تُدخل أشعتها الشمسية لداخل الكهف فلا ضر من ذلك، ولكنها إذا صعدت في قلب السماء يكون ذلك أمراً مألوفاً وهذا يكشف عن احد أمرين:إما أن يكون الكهف في وسط سلسلة جبلية، تمنع الشمس من التأثير عليه وقت الإشراق، وإما أن يكون الكهف في منخفض عن مستوى سطح البحر، وحينئذٍ فالنتيجة واحدة وهو أن الشمس لا تستطيع إدخال أشعتها إلا عند طلوعها، وليس عند شروقها،وهذا يقوي اختيار بعضهم أن الكهف هو كهف فيلادلفيا (عمّان القديمة) وهي تبعد مسافة ثلاثة عشر كيلومتراً جنوب شرق عمان الحالية.

وقوله سبحانه وتعالى حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أردفه بقوله وَجَدَهَا في المرحلة الثانية وقوله سبحانه وتعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أردفه بقوله وَجَدَهَا، فالمغرب والمطلع هما اسما مكان والمَطْلَع يختلف عن المَطْلَع والأخير هو اسم مكان, وتعبيره بـوَجَدَهَا يسكت عن مكان المطلع والمغرب،، ويوجه الأذهان نحو الشمس، لأن لها التأثير الأكبر على المغرب والمطلع، اللذين اتصلا بحركة الشمس، فهما مكانان أخذا أهميتهما من حركة الشمس، إن لم نقل إنهما موجودان لتوسط الشمس في وجودهما، ولولاها لما كان لهما شأن وفرصة في الحياة، وهذا يدفع إلى احتمال بأن الرحلة الفضائية لذي القرنين كانت نحو كواكب داخلية للمجموعة الشمسية، أي احد الكوكبين (عطارد والزهرة) لكون الكواكب الأخرى الخارجية تزداد برودة وجليداً كلما ابتعدت عن الشمس, وفي الروايات ما يُستظهر منه ذلك وسوف نمر عليها إنشاء الله.

المرحلة الرابعة: قوله تعالى:

حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً) (99).

إذن فخاتمة القصة التي قصّها الله سبحانه في القرآن الكريم، تنتهي بالرحلة الرابعة لذي القرنين والتي كانت إلى منطقة (بين السدّين)، وكان دونهما قوم لا يَفقهون قولا (أي لا يعرفون الكلام) فقد يكونون في مرحلة ثقافية متأخرة، وفي بداية لغة الإشارة والأصوات المتقطعة للتفاهم وعلى قراءة (لا يُفقِهون قولاً) قال بأنهم يتكلمون لغة غريبة لا يفهمها غيرهم([209])، وقد يكون هذا اظهر لأنهم ليسوا من الأرضيين (كما سنرى) فلغتهم تختلف عن شجرة اللغات المعروفة لأهل الأرض لذلك وصفهم الله بذلك.

والملاحظ هنا انه كان هناك (سدّين) في هذا المكان، ووصل ذو القرنين إلى ما بينهما، وقد استعمل سبحانه مفردة (بلغ) ليصف وصوله إلى هذا المكان مما يكشف عن أن الرحلات الثلاث الأخيرة له كانت كل واحدة لجهة متميزة عن الأخرى، فاستعمال (بلغ) يفيد الوصول إلى منتهى الغاية في الجهة المقصودة وأقصى المقصد([210]) وهو يختلف عن مفردة (وصل) فقد يكون الوصول هو بداية الى غاية أخرى في المقصد نفسه بخلاف البلوغ.

ولعل الحكمة في انه سبحانه لم يشر إلى الجهة الجغرافية في الرحلة الرابعة، بل انه قال (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) بينما قال في الرحلة الثانية (حتى إذا بلغ مغرب الشمس) وقال في الرحلة الثالثة (حتى إذا بلغ مطلع الشمس) ما يكشف عن أنها جهة ثالثة لا للشرق ولا للغرب فقد تكون هذه الرحلة رحلة مختلفة تماماً عن الرحلات الثلاث، فالأولى كانت أرضية والثانية والثالثة كانتا فضائيتان (كما ستثبت الروايات المتظافرة) إلى الشرق والغرب من الكرة الأرضية، أما هذه فقد أُبهمت جهتها، وما هذا إلا لنكتة طبعاً، ولا اعتقد بان الرحلة كانت للشمال أو الجنوب إذ لذُكر ذلك مثلما ذُكرت الوجهتان السابقتان، فلم يبق إلا أن تكون الرحلة زمنية أي أنها كانت في (البعد الرابع) كما يصفه بعضهم، ومن هنا فسؤال إبراهيم الخليل عليه السلام لذي القرنين (بمَ قطعت الدهر)([211])؟! والدهر هو الزمن فسؤال إبراهيم عليه السلام سؤال منطقي سيسأله أي شخص مكانه إذا رأى رجلا مثل ذي القرنين قد جاء في زمان غير زمانه! أي أن ذا القرنين سافر في غور الزمن وليس بالزمن! أي انه اختزله وهذا يحدث بشرط أن يكون المسافر بسرعة أسرع من الضوء أضعافاً عديدة مما يمكنه أن يلج عبر بوابة الزمن ليلقي أناساً في المكان نفسه ولكن في زمان مختلف تماماً!!

وأما في الروايات فقد جاءت روايات عديدة عن المعصومين بشأن ذي القرنين وقصته اخترنا منها:

ما نقله صاحب البحار عن العياشي في تفسيره (عن حارث بن حبيب قال: أتى رجل علياً عليه السلام فقال له: يا أمير المؤمنين أخبرني عن ذي القرنين، فقال له: سُخّر له السحاب، وقُرّبت له الأسباب، وبُسِط له في النور، فقال له الرجل: كيف بُسِط له في النور؟ فقال علي عليه السلام: كان يبصر بالليل كما يبصر بالنهار، ثم قال علي عليه السلام للرجل: أزيدك فيه؟ فسكت)([212]).

والرواية واضحة الدلالة فقوله عليه السلام: (سُخّر له السحاب) قد يشير إلى آلة يطير بها أينما شاء أو لوسيلة طبيعية غير صناعية يتنقل بها، مع السكوت عن طريقة الطيران ونوع الآلة، هذا مع وجود نصوص عن المعصومين حول الآلة التي ركبها ذو القرنين ستأتيك في مكانها،ولكون الأئمة عليهم السلام كانوا يكلمون الناس على قدر عقولهم، فلم يتطرق الإمام عليه السلام مع هذا السائل لمسائل أكثر تعقيداً تطرق لها الإمام مع آخرين لذا قال الإمام في آخر الرواية (أزيدك فيه؟!) مما يكشف عن إن الإمام سكت عن أمور لم يرد إظهارها له ابتداءً لمصالح قد تتعلق بقوة إيمانه، فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام (إن رجلاً قال لعلي عليه السلام يا أمير المؤمنين لو أريتنا ما نطمئن به مما أنهى إليك رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: لو رأيتم عجيبة من عجايبي لكفرتم وقلتم إني ساحر كذاب وكاهن وهو من أحسن قولكم)([213])!.

وقوله عليه السلام (وقُربت له الأسباب، وبُسط له في النور، فقال له الرجل: كيف بسط له في النور؟ فقال علي عليه السلام: كان يبصر بالليل كما يبصر بالنهار).. وما أبدع هذا الكلام فالأسباب هي طرق السموات كما استظهرها غير واحد، وقوله (قُربت) و(بُسطت) بالمبني للمجهول (وهو معلوم!) يكشف عن القوى الإلهية التي سددت خطى ذي القرنين، إذ أن التقريب هو الاختزال والاختصار فأسباب السموات - وهي طرقها - اختُصرت له وهذا ما يجيب على السؤال الذي يسألونه اليوم، وهو إذا كانت المسافات بين الكواكب والمجرات تبلغ ملايين السنوات الضوئية، فأنّى للإنسان العمر الكافي لقطع هذه المسافات؟!

والسؤال مهم، والجواب عليه: أن للسموات طرقاً مختصرة لم يُكشف عنها إلا للخواص من أولياء الله، فكما أن على الأرض طرقاً مختصرة تمكّن الولي من طوي الأرض وهذا موجود عند جميع المسلمين ومنها قصة آصف بن برخيا كما قصه القرآن قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (النمل:40) وقوله فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ واستعماله (الفاء) يفيد التراتب الزمني، وإذ رأى القصر مباشرة بعد كلامه مما ينبئك عن السرعة الخارقة لهذا الوصي، كذلك في السموات هناك طرق مختصرة قد لا تطول الرحلة خلالها إلا أياما قليلة تختصر بها مئات وآلافٌ من السنين في السفر, وقد ورد في المأثور ما يفيد ذلك في التوجه الفطري إلى الله تعالى اذ ورد (عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام) - في حديث طويل، في كيفية خلق آدم (عليه السلام) - إلى أن قال: ثم أمر الله تعالى الملائكة أن يحملوا آدم على أكتافهم، ليكون عاليا عليهم، وهم يقولون: سبوح، سُبّوح، لا خروج عن طاعتك، وسارت به في طرق السموات)([214]).. وهنا فهم جديد لآية قرآنية لم يُعِرها المفسرون كثير اهتمام وهو قوله تعالى:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (المؤمنون:17).

فالراجح أن الطرائق هي طرق السماوات، وليست هي السماوات نفسها! غير أن المفسرين (عدا من فسر الآية بالتفسير الباطني) اتفقوا وبلا استثناء على كون هذه الطرائق هي السماوات، وسبحانه قد عبّر عن السموات بألفاظها في عشرات المواضع، إذ جاء لفظ (السموات) في مئة وتسعين موردا وجاء لفظ (السماء) في مئة وعشرين موردا فلِمَ يعبر فقط في هذا الموضع بهذا التعبير (سبع طرائق)؟!

فضلاً عن هذا فالآية متناسقة مع المرويات، ومن ذلك دعاء الإمام زين العابدين(يا مالك خزائن الأقوات وفاطر أصناف البريات، وخالق سبع طرائق مسلوكات من فوق سبع أرضين مذللات، العالي في وقار العز والمنعة)([215]) فقول الإمام (مسلوكات) تشير إلى طرق في السماء ولو أراد السموات لاستعمل (العروج) كما قال سبحانه وتعالى:

وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (سـبأ: من الآية2).

يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ (الحديد: من الآية4).

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (الحجر:14)

والى هذا أشار الجن في سورة الجن بقولهم:

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (الجـن:11).

لذا استعمل الإمام عليه السلام مصطلح(السلوك) كما استعمل ذلك صريحا مقترناً بالطريق, كما في قول النبي صلى الله عليه وآله (من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله تعالى به طريقا إلى الجنة)([216]) ونحوه قول الإمام الكاظم عليه السلام (كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا سلك طريقا (إلى الحج) لم يرجع فيه)([217]).

والطرائق هنا جمع طريق، وعبّر الجن عن اتجاهاتهم الدينية المتفرقة بـ(الطرق) لكونهم سلكوها فكرياً واعتقادياً، فهي طرق في الحقيقة. كما عبَّر الناس عن الاتجاهات الدينية بـ(المذاهب)، مع العلم بان لفظ (طرائق) ورد بهذا الشكل في موردين فقط في القرآن، هما مورد (سورة المؤمنون) ومورد (سورة الجن) وأما لفظ (طريق) فقد ورد مفرداً في عدة موارد، لذا فمن الصعب فهم قولهم بأن الطرائق هي السموات!.

إذن فالطرائق في مورد (المؤمنون) هي طرق خاصة للسموات، ويبقى مكانها وكيفية سلوكها الى اليوم غامضاً وغير مكتشف وقد يبقى كذلك إلى ما شاء الله.

وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (الحجر:14) فالآية المباركة تنصُّ على وجود أبواب للسماء قابلة للفتح، وقد تكون هي أبواب العروج والصعود إلى أعالي السماء، وقوله تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (القمر:11) وهي تثبت ان السماء ليست فارغاً بل لها أبواب تفتح.

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام (إن أمرنا صعب مستصعب، لا يحمله إلا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة وأحلام رزينة أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، فلانا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها، وتذهب بأحلام قومها) ([218])..ففي الرواية إشارة صريحة لطرقٍ في السموات.

وقوله عليه السلام في الحديث الذي نقلناه(كان يبصر بالليل كما يبصر بالنهار) إشارة إلى طبيعة الرؤية في الفضاء الخارجي, ففي الفضاء الخارجي ليس هناك ليل ولا نهار وإنما نور ناتج من سطوع النجوم والأجسام المضيئة في السماء، لا يتغير ولا ينقص ولا يزيد إلاّ بحدوث انفجارات هائلة في الكون, وهذا غريب عن ليلنا ونهارنا الذي يعتمد على حركة الأرض حول نفسها ومواجهة جزء معين منها للشمس أو مغيبه عنها (علما بأن أول من كشف عن ظلمة الارض عملياً هو الروسي (يوري غاغارين) عند صعوده الى الفضاء في الثاني عشر من نيسان عام1961م). وقد وردت إشارة لهذا في حديث نقله العياشي في تفسيره([219]) (ثم اتبع) ذو القرنين (سببا) في ناحية الظُلْمة) والظُلْمة في حديث أهل البيت عليهم السلام تُعرف من القرائن المحيطة بها، وهنا تمثل الفضاء الخارجي، والدليل ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام (لا يخرج المهدي حتى تُرقى الظُلْمة) وهذا يكشف عن أن خروج الإمام يكون في وقت تكون التكنولوجيا الفضائية في قمتها، إذ أن الظُلمة تُرقى لذا استعمل الإمام عليه السلام (تُرقى) ولم يستعمل(تُصعد) إذ أن (أن الرقي أعم من الصعود، ألا ترى أنه يقال رقى في الدرجة والسلم، كما يقال صعد فيهما، ويقال رقيت في العلم والشرف إلى أبعد غاية ورقي في الفضل ولا يقال في ذلك صعد والصعود على ما ذكرنا مقصور على المكان، والرقي يستعمل فيه وفي غيره فهو أعم وهو أيضا يفيد التدرج في المعنى شيئا بعد شيء، ولهذا سمي الدرج مراقي وتقول ما زلت أراقيه حتى بلغت به الغاية أي أعلو به شيئا شيئا.)([220]) فلما لم يكن الفضاء الخارجي مكاناً مادياً محدداً استعمل له رقي ولم يستعمل له صعد هنا.

فقول المشركين للنبي صلى الله عليه وآله:

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً (الاسراء:93).

ناظر لذلك فإنهم سمّوا العروج إلى السماء رقيّاً.

ونقل صاحب البحار عن العياشي في تفسيره (عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال سئل عن ذي القرنين قال: كان عبدا صالحا واسمه عياش اختاره الله وابتعثه إلى قرن من القرون الأولى في ناحية المغرب، وذلك بعد طوفان نوح، فضربوه على قرن رأسه الأيمن فمات منها، ثم أحياه الله بعد مائة عام، ثم بعثه إلى قرن من القرون الأولى في ناحية المشرق، فكذبوه فضربوه ضربة على قرنه الأيسر فمات منها، ثم أحياه الله بعد مائة عام وعوضه من الضربتين اللتين على رأسه قرنين في موضع الضربتين أجوفين، وجعل عز ملكه وآية نبوته في قرنيه، ثم رفعه الله إلى السماء الدنيا فكشط له عن الأرض كلها جبالها وسهولها وفجاجها حتى أبصر ما بين المشرق والمغرب، وآتاه الله من كل شيء علما يعرف به الحق والباطل، وأيده في قرنيه بكسف من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، ثم أهبط إلى الأرض وأوحى إليه: أن سر في ناحية غرب الأرض وشرقها فقد طويت لك البلاد وذللت لك العباد فأرهبتهم منك، فسار ذو القرنين إلى ناحية المغرب فكان إذا مر بقرية زأر فيها كما يزأر الأسد المغضب، فيبعث من قرنيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق تهلك من ناواه وخالفه، فلم يبلغ مغرب الشمس حتى دان له أهل المشرق والمغرب) ([221]).

والحديث كله إشارات سابقة لزمنها، لأناس لم يكونوا يفهمون كلام الإمام لو تكلم به حسب الواقع, وخير تفسير لتلك القرون التي في غرب الأرض والقرون التي في شرق الأرض هو ما نقله الثعلبي في عرائسه إذ قال (روى وهب بن منبه وغيره من أهل الكتب قالوا: كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه اسكندروس ويقال: كان اسمه عياش وكان عبدا صالحا، فلما استحكم ملكه واستجمع أمره أوحى الله إليه: يا ذا القرنين! إني بعثتك إلى جميع الخلق ما بين الخافقين وجعلتك حجتي عليهم، وهذا تأويل رؤياك وإني باعثك إلى أمم الأرض كلهم وهم سبع أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما عرض الأرض، وأمتان بينهما طول الأرض، وثلاث أمم في وسط الأرض، وهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فأما الأمتان اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند المغرب يقال لها ناسك وأمة أخرى بحيالها عند مطلع الشمس يقال لها منسك وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل وأمة في قطر الأرض الأيسر يقال لها قاويل )([222])..

وقد يكون قوله (إني باعثك إلى أمم الأرض كلهم) نقلا بالمعنى لان ابن حجر نقل القصة نفسها ولكنه قال (ان الله بعثه إلى أربعة (كذا) أمم أمتين بينهما طول الأرض وأمتين بينهما عرض الأرض)([223]) وهذا لا خلاف عليه ويتوافق مع سائر الروايات الواردة في الموضوع نفسه. وهو يثبت أن هذه الأمم خارج الأرض وإنما البعد بينهم كان قياسا إلى وجود الأرض.

وقوله عليه السلام في رواية البحار(ثم رفعه الله إلى السماء الدنيا فكشط له عن الأرض كلها جبالها وسهولها وفجاجها حتى أبصر ما بين المشرق والمغرب، وآتاه الله من كل شيء علما يعرف به الحق والباطل، وأيده في قرنيه بكسف من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، ثم أهبط إلى الأرض وأوحى إليه: أن سر في ناحية غرب الأرض وشرقها فقد طويت لك البلاد وذللت لك العباد فأرهبتهم منك، فسار ذو القرنين إلى ناحية المغرب فكان إذا مر بقرية زأر فيها كما يزأر الأسد المغضب، فيبعث من قرنيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق تهلك من ناواه وخالفه)..

والرواية واضحة في السفر الى خارج الأرض حتى (أبصر ما بين الشرق والغرب) وكان مؤيداً بأسلحة رهيبة فيها (ظلمات ورعد وبرق) وهي كناية عن أسلحة متقدمة كان يستخدمها ذو القرنين في عصره، للسيطرة على الأرض والسماء وبسط حكم الله فيهما,وقوله عليه السلام (أن سر في ناحية غرب الأرض وشرقها فقد طويت لك البلاد) إذ لم يقل (سر في منطقة ما غرب الأرض) بل قال (سر في ناحية غرب الأرض وشرقها) والطريقة التي استعملها ذو القرنين في سيره في (ناحيتي) الأرض الشرقية والغربية هي (طي البلاد) ولم يقل طي الأرض، وتعبيره بناحية غرب الأرض إشارة إلى أن هذا الأمر ليس في (مغرب الأرض) وهي جهة الغرب للموجود على الأرض للرائي من السماء (كما جاء في الحديث) فاللفظ تغير إلى (ناحية غرب الأرض وشرقها) والناحية هي كل الشيء وليس بعض الشيء([224]) إذاً فالكلام كان عن نواحي غرب وشرق للأرض وهو ما نُص عليه في اغلب الروايات.

و(الطي) كلفظ قرآني استعمل في القرآن مع السموات ولم يستعمل مع الأرض إذ قال تعالى:

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (الانبياء:104) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (الزمر:67).

وقال الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه([225]) (وأسألك بنور اسمك الذي خلقت به نور حجابك النور، وأسألك يا الله باسمك الذي تضعضع به سكان سمواتك وأرضك، واستقر به عرشك، وتطوى به سماؤك، وتبدل به أرضك، وتقيم به القيامة).

فسمّى عملية السير في السماء (طيّا). والظاهر أن الفرق بين الطي والعروج، أن العروج يكون رُقيّا من الأسفل الى الأعلى، أما الطيّ فيكون خلال السماء أفقياً والله اعلم.

إذاً فالاستعمال الشائع (طيّ الأرض) هو في الأصل للسموات وليس للأرض وإنما استعمل القرآن (السير) مع الأرض فقال:

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (القصص:29).

وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (الطور:10)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا (يوسف: من الآية109

أَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(الحج:46)

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا.. (الروم:9) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... (فاطر:44) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا... (غافر:21) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (غافر:82) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (محمد:10).

واستعمال الطي للأرض عند العرب كان في مورد قطع المسافات في ظرف زمني قصير، وكانوا يقصدون بها الظهور في مكانين من غير المرور بالمسافة بينهما، وقد يكون هذا مأخوذا من الإشارة للطي في السموات.

وأكمل صاحب البحار الرواية الطويلة بقوله (وكان له خليل من الملائكة يقال له: رقائيل ينزل إليه فيحدثه ويناجيه، فبينا هو ذات يوم عنده إذ قال له ذو القرنين: يا رقائيل كيف عبادة أهل السماء؟ وأين هي من عبادة أهل الأرض؟ قال رقائيل: يا ذا القرنين وما عبادة أهل الأرض، فقال: أما عبادة أهل السماء ما في السماوات موضع قدم إلا وعليه ملك قائم لا يقعد أبدا، أو راكع لا يسجد أبدا، أو ساجد لا يرفع رأسه أبدا، فبكى ذو القرنين بكاء شديدا فقال: يا رقائيل إني أحب أن أعيش حتى أبلغ من عبادة ربي وحق طاعته ما هو أهله، قال رقائيل: يا ذا القرنين إن لله في الأرض عينا تدعى عين الحياة فيها عزيمة من الله، إنه من يشرب منها لم يمت حتى يكون هو الذي يسأل الله الموت، فإن ظفرت بها تعش ما شئت، قال: وأين تلك العين؟ وهل تعرفها؟ قال: لا غير أنا نتحدث في السماء أن لله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان، فقال ذو القرنين: وأين تلك الظلمة؟ قال رقائيل: ما أدري، ثم صعد رقائيل فدخل ذا القرنين حزن طويل من قول رقائيل ومما أخبره عن العين والظلمة ولم يخبره بعلم ينتفع به منهما، فجمع ذو القرنين فقهاء أهل مملكته وعلماءهم وأهل دراسة الكتب وآثار النبوة فلما اجتمعوا عنده قال ذو القرنين: يا معشر الفقهاء وأهل الكتب وآثار النبوة هل وجدتم فيما قرأتم من كتب الله وفي كتب من كان قبلكم من الملوك أن الله عينا تدعى عين الحياة، فيها من الله عزيمة إنه من يشرب منها لم يمت حتى يكون هو الذي يسأل الله الموت؟ قالوا: لا يا أيها الملك، قال: فهل وجدتم فيما قرأتم من الكتب أن الله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان؟ قالوا: لا أيها الملك فحزن عليه ذو القرنين حزنا شديدا وبكى إذ لم يخبر عن العين والظلمة بما يحب، وكان فيمن حضره غلام من الغلمان من أولاد الأوصياء: أوصياء الأنبياء، وكان ساكتا لا يتكلم حتى إذا آيس ذو القرنين منهم قال له الغلام: أيها الملك إنك تسأل هؤلاء عن أمر ليس لهم به علم، وعلم ما تريد عندي، ففرح ذو القرنين فرحا شديدا حتى نزل عن فراشه وقال له: ادن مني فدنا منه، فقال: أخبرني، قال: نعم أيها الملك، إني وجدت في كتاب آدم الذي كتب يوم سمي له ما في الأرض من عين أو شجر، فوجدت فيه أن لله عينا تدعى عين الحياة، فيها من أمر الله عزيمة، إنه من يشرب منها لم يمت حتى يكون هو الذي يسأل الله الموت بظلمة لم يطأها إنس ولا جان، ففرح ذو القرنين وقال: ادن مني يا أيها الغلام تدري أين موضعها؟ قال: نعم، وجدت في كتاب آدم أنها على قرن الشمس - يعني مطلعها - ففرح ذو القرنين وبعث إلى أهل مملكته فجمع أشرافهم وفقهاءهم وعلماءهم وأهل الحكم منهم فاجتمع إليه ألف حكيم وعالم وفقيه، فلما اجتمعوا عليه تهيأ للمسير وتأهب له بأعد العدة وأقوى القوة، فسار بهم يريد مطلع الشمس يخوض البحار ويقطع الجبال والفيافي والأرضين والمفاوز فسار اثنتي عشر سنة حتى انتهى إلى طرف الظلمة، فإذا هي ليست بظلمة ليل ولا دخان ولكنها هواء يفور سد ما بين الأفقين، فنزل بطرفها وعسكر عليها، وجمع علماء أهل عسكره وفقهاءهم وأهل الفضل منهم، فقال: يا معشر الفقهاء والعلماء إني أريد أن أسلك هذه الظلمة، فخروا له سجدا فقالوا: أيها الملك إنك لتطلب أمرا ما طلبه ولا سلكه أحد كان قبلك من النبيين والمرسلين ولا من الملوك، قال: إنه لا بد لي من طلبها، قالوا: أيها الملك إنا لو نعلم أنك إذا سلكتها ظفرت بحاجتك منها بغير عنت عليك لأمرنا ولكنا نخاف أن يعلق بك منها أمر يكون فيه هلاك ملكك، وزوال سلطانك، وفساد من الأرض، فقال: لابد من أن أسلكها، فخروا سجدا لله وقالوا: إنا نتبرء إليك مما يريد ذو القرنين. فقال ذو القرنين: يا معشر العلماء أخبروني بأبصر الدواب، قالوا: الخيل الإناث البكارة أبصر الدواب، فانتخب من عسكره فأصاب ستة آلاف فرس إناثا أبكارا وانتخب من أهل العلم والفضل والحكمة ستة آلاف رجل، فدفع إلى كل رجل فرسا وولى فسحر - وهو الخضر - على ألفي فرس، فجعلهم على مقدمته، وأمرهم أن يدخلوا الظلمة، وسار ذو القرنين في أربعة آلاف وأمر أهل عسكره أن يلزموا معسكره اثنتي عشر سنة، فإن رجع هو إليهم إلى ذلك الوقت وإلا تفرقوا في البلاد ولحقوا ببلادهم أو حيث شاؤوا، فقال الخضر: أيها الملك إنا نسلك في الظلمة لا يرى بعضنا بعضا كيف نصنع بالضلال إذا أصابنا؟ فأعطاه ذو القرنين خرزة حمراء كأنها مشعلة لها ضوء، فقال: خذ هذه الخرزة فإذا أصابكم الضلال فارم بها إلى الأرض فإنها تصيح، فإذا صاحت رجع أهل الضلال إلى صوتها، فأخذها الخضر ومضى في الظلمة، وكان الخضر يرتحل وينزل ذو القرنين، فبينا الخضر يسير ذات يوم إذ عرض له واد في الظلمة فقال لأصحابه: قفوا في هذا الموضع لا يتحركن أحد منكم عن موضعه، ونزل عن فرسه فتناول الخرزة فرمى بها في الوادي فأبطأت عنه بالإجابة حتى خاف أن لا يجيبه، ثم أجابته فخرج إلى صوتها فإذا هي على جانب العين، وإذا ماؤها أشد بياضا من اللبن، وأصفى من الياقوت، وأحلى من العسل، فشرب منه ثم خلع ثيابه فاغتسل منها، ثم لبس ثيابه ثم رمى بالخرزة نحو أصحابه فأجابته، فخرج إلى أصحابه وركب وأمرهم بالمسير فساروا، ومر ذو القرنين بعده فأخطأ الوادي فسلكوا تلك الظلمة أربعين يوما وأربعين ليلة، ثم خرجوا بضوء ليس بضوء نهار ولا شمس ولا قمر ولكنه نور، فخرجوا إلى أرض حمراء رملة خشخاشة فركة كأن حصاها اللؤلؤ، فإذا هو بقصر مبني على طول فرسخ. فجاء ذو القرنين إلى الباب فعسكر عليه، ثم توجه بوجهه وحده إلى القصر فإذا طائر وإذا حديدة طويلة قد وضع طرفاها على جانبي القصر، والطير أسود معلق في تلك الحديدة بين السماء والأرض كأنه الخطاف أو صورة الخطاف أو شبيه بالخطاف أو هو خطاف، فلما سمع الطائر خشخشة ذي القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين، فقال الطائر: يا ذا القرنين أما كفاك ما وراءك حتى وصلت إلى حد بابي هذا، ففرق ذو القرنين فرقا شديدا، فقال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل كثر في الأرض بنيان الاجر والجص؟ قال: نعم، قال: فانتفض الطير وامتلأ حتى ملا من الحديدة ثلثها، ففرق ذو القرنين فقال: لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل كثرت المعازف؟ قال: نعم، قال: فانتقض الطير وامتلأ حتى ملا من الحديدة ثلثيها، ففرق ذو القرنين فقال: لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل ارتكب الناس شهادة الزور في الأرض؟ قال: نعم، فانتفض انتفاضة وانتفخ فسد ما بين جداري القصر، قال: فامتلأ ذو القرنين عند ذلك فرقا منه، فقال له: لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال هل ترك الناس شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال: لا، فانضم ثلثه ثم قال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني، قال: سل، هل ترك الناس الصلاة المفروضة؟ قال: لا، قال: فانضم ثلث آخر، ثم قال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل ترك الناس الغسل من الجنابة؟ قال: لا، قال: فانضم حتى عاد إلى حاله الأول، فإذا هو بدرجة مدرجة إلى أعلى القصر. فقال الطير: يا ذا القرنين اسلك هذه الدرجة، فسلكها وهو خائف لا يدري ما يهجم عليه حتى استوى على ظهرها، فإذا هو بسطح ممدود مد البصر، وإذا رجل شاب أبيض مضئ الوجه عليه ثياب بيض حتى كأنه رجل أو في صورة رجل أو شبيه بالرجل أو هو رجل، وإذا هو رافع رأسه إلى السماء ينظر إليها واضع يده على فيه، فلما سمع خشخشة ذي القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين، قال: يا ذا القرنين أما كفاك ما وراءك حتى وصلت إلي؟! قال ذو القرنين: مالي أراك واضعا يدك على فيك؟ قال: يا ذا القرنين أنا صاحب الصور، وإن الساعة قد اقتربت وأنا أنتظر أن أؤمر بالنفخ فأنفخ، ثم ضرب بيده فتناول حجرا فرمى به إلى ذي القرنين كأنه حجر أو شبه حجر أو هو حجر فقال: يا ذا القرنين خذها فإن جاع جعت، وإن شبع شبعت فارجع، فرجع ذو القرنين بذلك الحجر حتى خرج به إلى أصحابه فأخبرهم بالطير وما سأله عنه وما قال له وما كان من أمره، وأخبرهم بصاحب السطح وما قال له وما أعطاه، ثم قال لهم: إنه أعطاني هذا الحجر وقال لي: إن جاع جعت وإن شبع شبعت، قال: أخبروني بأمر هذا الحجر، فوضع في إحدى الكفين فوضع حجر مثله في الكفة الأخرى ثم رفع الميزان فإذا الحجر الذي جاء به أرجح بمثل الاخر فوضعوا آخر فمال به حتى وضعوا ألف حجر كلها مثله، ثم رفعوا الميزان فمال بها ولم يستمل به الألف حجر فقالوا: يا أيها الملك لا علم لنا بهذا. فقال له الخضر: أيها الملك إنك تسأل هؤلاء عمالا علم لهم به، وقد أوتيت علم هذا الحجر، فقال ذو القرنين: فأخبرنا به وبينه لنا، فتناول الخضر الميزان فوضع الحجر الذي جاء به ذو القرنين في كفة الميزان، ثم وضع حجرا آخر في كفة أخرى، ثم وضع كفة تراب على حجر ذي القرنين يزيده ثقلا ثم رفع الميزان فاعتدل، وعجبوا وخروا سجدا لله تعالى وقالوا: أيها الملك هذا أمر لم يبلغه علمنا وإنا لنعلم أن الخضر ليس بساحر فكيف هذا وقد وضعنا معه ألف حجر كلها مثله فمال بها وهذا قد اعتدل به وزاده ترابا؟ قال ذو القرنين: بين يا خضر لنا أمر هذا الحجر، قال الخضر: أيها الملك إن أمر الله نافذ في عباده، وسلطانه قاهر، وحكمه فاصل وإن الله ابتلى عباده بعضهم ببعض، وابتلى العالم بالعالم، والجاهل بالجاهل، والعالم بالجاهل، والجاهل بالعالم، وإنه ابتلاني بك، وابتلاك بي، فقال ذو القرنين: يرحمك الله يا خضر إنما تقول: ابتلاني بك حين جعلت أعلم مني وجعلت تحت يدي أخبرني يرحمك الله عن أمر هذا الحجر، فقال الخضر: أيها الملك إن هذا الحجر مثل ضربه لك صاحب الصور، يقول: إن مثل بني آدم مثل هذا الحجر الذي وضع ووضع معه ألف حجر فمال بها، ثم إذا وضع عليه التراب شبع وعاد حجرا مثله، فيقول: كذلك مثلك أعطاك الله من الملك ما أعطاك فلم ترض به حتى طلبت أمرا لم يطلبه أبدا من كان قبلك، ودخلت مدخلا لم يدخله إنس ولا جان، يقول: كذلك ابن آدم ولا يشبع حتى يحثى عليه التراب، قال: فبكى ذو القرنين بكاء شديدا وقال: صدقت يا خضر يضرب لي هذا المثل، لا جرم إني لا أطلب أثرا في البلاد بعد مسلكي هذا، ثم انصرف راجعا في الظلمة فبينا هم يسيرون إذ سمعوا خشخشة تحت سنابك خيلهم، فقالوا: أيها الملك ما هذا؟ فقال: خذوا منه، فمن أخذ منه ندم، ومن تركه ندم، فأخذ بعض وترك بعض، فلما خرجوا من الظلمة إذا هم بالزبرجد فندم الاخذ والتارك، ورجع ذو القرنين إلى دومة الجندل وكان بها منزله، فلم يزل بها حتى قبضه الله إليه. قال: وكان صلى الله عليه وآله إذا حدث بهذا الحديث قال: رحم الله أخي ذا القرنين ما كان مخطئا إذ سلك ما سلك وطلب ما طلب. ولو ظفر بوادي الزبرجد في مذهبه لما ترك فيه شيئاً إلا أخرجه إلى الناس لأنه كان راغبا، ولكنه ظفر به بعد ما رجع فقد زهد.) ([226])

فانتبه لقوله (فسار بهم يريد مطلع الشمس يخوض البحار ويقطع الجبال والفيافي والأرضين والمفاوز فسار اثنتي عشر سنة حتى انتهى إلى طرف الظلمة، فإذا هي ليست بظلمة ليل ولا دخان ولكنها هواء يفور سد ما بين الأفقين).

والظلمة هنا قد يراد بها الفضاء الخارجي وانتبه لقوله (ليست بظلمة ليل ولا دخان ولكنها هواء) وهذه هي ظلمة الفضاء فهي ليست ناتجة من ليل ولا من دخان حجب ضوء الشمس. وقد ورد صريحا في رواية أخرى قوله (وجعل الليل والنهار عليه سواء فبذلك بلغ مشارق الأرض ومغاربها)([227]) ولا يصير الليل والنهار سواء إلا خارج الغلاف الجوي للأرض ولكل كوكب والسبب معروف فالضوء يسير مستقيما ما لم تعترضه ذرّات الغبار في عملية (التشتت) وحينها تبدأ ذرة الغبار بعكس أشعة الضوء يمينا وشمالا محدثة مجالا مضيئا وهذا هو الذي يحدث داخل الغلاف الجوي المليء بالغبار مسببا ضوء النهار الباهر عند شروق الشمس أما في الفضاء الخارجي فحيث لا غبار ولا انعكاس لأشعة الشمس فالرائي يرى الشمس مشرقة من غير أي ضوء يملأ المكان. على هذا يمكن تفسير الصور التي جاءت من القمر في رحلة المركبة (ابولو) إذ ان أهل الأرض رأوا القمر مظلماً على خلاف ما توقعوه، وما تعودوا عليه من إن يروه جميلا منيرا في الليل، وذلك لعدم وجود غلاف جوي للقمر ولا وجود لعملية (التشتت).

وقوله في الرواية (فأعطاه ذو القرنين خرزة حمراء كأنها مشعلة لها ضوء) وهي إشارة لجهاز تعقب كانوا يستعملونه للاستدلال على المكان كما يستعمل اليوم جهاز(..) للاستدلال على المكان.

وروى المجلسي في البحار (عن جبرئيل بن أحمد، عن موسى بن جعفر رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: إن ذا القرنين عمل صندوقا من قوارير ثم حمل في مسيره ما شاء الله، ثم ركب البحر فلما انتهى إلى موضع منه قال لأصحابه: دلوني، فإذا حركت الحبل فأخرجوني، فإن لم أحرك الحبل فأرسلوني إلى آخره، فأرسلوه في البحر وأرسلوا الحبل مسيرة أربعين يوما، فإذا ضارب يضرب حيث الصندوق ويقول يا ذا القرنين أين تريد؟ قال: أريد أن أنظر إلى ملك ربي في البحر كما رأيته في البر، فقال: يا ذا القرنين إن هذا الموضع الذي أنت فيه مر فيه نوح زمان الطوفان فسقط منه قدوم فهو يهوي في قعر البحر إلى الساعة لم يبلغ قعره، فلما سمع ذو القرنين ذلك حرك الحبل وخرج) ([228])..

والصندوق الذي صنعه ذو القرنين من (القوارير) قد يكون مركبة أقلّت ذا القرنين إلى مجاهل الفضاء وقد تكون الإشارة إليها بأنها من قوارير لان القوارير تحتاج إلى دقة في الصنع، وكونها من دقَّتها سهلة الكسر فكذلك هذه المركبة فاقرب ما يمكن التصريح عنه رعاية لأذهان الناس أن يقال بأنها من قوارير! إضافة لكونه استعمل (حبلا) كطريقة للاتصال بينه وبين أصحابه وهذه إشارة لطيفة لطريقة اتصال متقدمة كانت لديهم لم نجد تفصيلاً عنها، إذ أن المعروف عن الأمواج الصوتية بأنها تسير بشكل مستقيم ولكون التقنيات المتقدمة الموجودة الآن لا تجد أي بديل عن الأمواج الصوتية في عملية الاتصال المتقدمة في الوقت الراهن, فقد يكون ذو القرنين قد استعمل آلة متقدمة للاتصال الصوتي الموجي كوسيلة للتواصل مع أصحابه، وما هذا بغريب إذ وُجد أن اليونانيين قد استعملوا العديد من الآلات الدقيقة والتي تضم أجزاء رقيقة ودقيقة الصنع، وكانوا قد استعملوا المسنّنات في بعضها مما يكشف عن وعي مبكر لبعض المخترعات العلمية الدقيقة.

وقد ورد مثل ذلك في وصف الدجال إذ روى الضحاك (أن الدجال ليس له لحية، وافر الشارب طول وجهه ذراعان وقامته في السماء ثمانون ذراعا وعرض ما بين منكبيه ثلاثون ذراعا، ثيابه وخفاه وسرجه ولجامه بالذهب والجوهر، على رأسه تاج مرصع بالذهب والجوهر، في يده طبرزن هيأته هيأة المجوس ترسه ترس فارسية وكلامه الفارسية تطوى له الأرض ولأصحابه طيا طيا يطأ مجامعها ويرد مناهلها إلا المساجد الأربعة مسجد (مكة) ومسجد (المدينة) ومسجد (بيت المقدس) ومسجد (الطور)) ([229]). ولا أظن بأن (الضحاك) وغيره اخترعوا هذا الكلام لولا أنه كلام معصوم سمعوه! فالضحاك يصف مركبة متقدمة دقيقة الصنع وليس غير ذلك وهذا هو الدجال!.

ومن الدلائل على أن البحر المذكور في رواية (البحار) هو الفضاء هو ما ذكر حول قعره فقعر المحيط في الأرض لا يبلغ ذلك ولا عشرة أمثاله، إذن الرواية تتكلم عن بحر ثانٍ. وقد سمي البحر بحرا: لاستبحاره وهو انبساطه وسعته([230]) وسموا كل متوسع في شيء بحرا حتى قالوا فرس بحر باعتبار سعة جريه. وقال عليه الصلاة والسلام في فرس ركبه: وجدته بحرا([231]).

وروى الميرزا النوري في مستدركه عن الراوندي في قصص الأنبياء: بإسناده عن الصدوق، بإسناده إلى محمد بن أروم عن محمد بن خالد، عمن ذكره، عن أبي جعفر عليه السلام قال: (حج ذو القرنين في ستمائة ألف فارس، فلما دخل الحرم شيعه بعض أصحابه إلى البيت، فلما انصرف قال: رأيت رجلا ما رأيت أكثر نورا وأحسن وجها منه، قالوا: ذاك إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه، قالوا: أسرجوا فأسرجوا ستمائة ألف دابة، في مقدار ما يسرج دابة واحدة، قال: ثم قال ذو القرنين: لا بل نمشي إلى خليل الرحمن، فمشى ومشى معه أصحابه حتى التقيا، قال إبراهيم عليه السلام: بم قطعت الدهر؟ قال: بإحدى عشر كلمة: سبحان من هو باق لا يفنى، سبحان من هو عالم لا ينسى، سبحان من هو حافظ لا يسقط، سبحان من هو بصير لا يرتاب، سبحان من هو قيوم لا ينام، سبحان من هو ملك لا يرام، سبحان من هو عزيز لا يضام، سبحان من هو محتجب لا يرى، سبحان من هو واسع لا يتكلف، سبحان من هو قائم لا يلهو، سبحان من هو دائم لا يسهو) ([232]).

فانتبه إلى السؤال الذي وجهه الخليل عليه السلام إذ انه فكر كما يفكر كل إنسان في توجيه أهم سؤال في ذهنه، فرأى أن يسأله عن الذي قطع به الدهر؟! وهو سؤال وجيه وجهه خليل الرحمن لرجل فعل ما لم يفعله غيره!.

كماروى الشيخ الحويزي (عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: إن عليا صلوات الله عليه ملك ما فوق الأرض وما تحتها، فعرضت له السحابتان الصعب والذلول فاختار الصعب فكان في الصعب ملك ما تحت الأرض، وفى الذلول ملك ما فوق الأرض. واختار الصعب على الذلول، فدارت به سبع أرضين فوجد ثلاثا خرابا وأربعا عوامر) ([233]).

إشارة إلى أن السحابتين قد تكونان وسائل للطيران أقلّت ذا القرنين، والسحاب الصعب أقلت ذا القرنين الى الكواكب السبعة إذ اكتشف ذو القرنين بأن ثلاثة منها خراب غير مسكونة وأربعة عوامر بالمخلوقات.

وقد يكون المقصود بـ(ملك ما فوق الأرض وما تحتها) هي الكواكب العليا والسفلى في المجموعة الشمسية، إذ أن بعض الكواكب تقع فوق الأرض في فلكها الدائر حول الشمس وبعضها الآخر تقع تحت الأرض، لذا فمن يرى مجسَّماً صغيراً للمجموعة الشمسية لا يرى كواكبَ متعاقبات على نسق واحد كما يحاولون إن يبّسطوا ذلك في برامج التعليم والكتب المدرسية، بل إن الكواكب غير منتظمة بهذا النحو، لذا اختار الفلكيون أن يقيسوا الأمر نسبيا إلى الأرض فسمّوا بعض الكواكب بالعليا، وبعضها بالسفلى نسبة إلى الأرض.فالعليا هي ما كانت فوق رأس الواقف باتجاه القطب الشمالي والسفلى ما كانت فوق الواقف باتجاه القطب الجنوبي.

روى المجلسي رواية طويلة بشأن ذي القرنين جاء فيها (سلكوا تلك الظلمة أربعين يوما وأربعين ليلة، ثم خرجوا بضوء ليس بضوء نهار ولا شمس ولا قمر ولكنه نور، فخرجوا إلى أرض حمراء رملة خشخاشة فركة، كأن حصاها اللؤلؤ) ([234])..

والظلمة هنا قد تكون احد الأنفاق الزمنية التي يقال عن وجودها في الفضاء أو إحدى الثقوب السوداء والتي بات بحكم المؤكد ما يقال عنها. وقوله (رملة خشخاشة فركة) أوصاف لأرض ذلك الكوكب إذ هي رملية تصدر أصواتا للماشي عليها، إذ أن هذا فعل التربة البلورية وقوله: فركة أي كونها غير قوية ويمكن فركها باليد.

وما يلفت الانتباه في الحديث هو وصف التربة بأنها (حمراء) وليس في النظام الشمسي غير المريخ بهذا الأوصاف حتى بات مشهوراً بالكوكب الأحمر، وقد اسماه اليونانيون (مارس) أي (اله الحرب) للونه الأحمر الذي يشبه لون الدم، والذي ينتج من أكسيد الحديد وبعض المركبات الأخرى لذا وصفته الرواية بأن تربته (رملة خشخاشة فركة) وهذا دقيق نوعاً ما! وهو كوكب يكون في اقرب مسافاته عن الأرض بما يقرب من 56 مليون كلم، وابعد مسافة له تقرب من 398 مليون كلم، وهو الجار الأعلى للأرض، إذ أن مداره أعلى من مدار الأرض، والمريخ يعتبر من أكثر الكواكب ارتباطاً بالقصص الغريبة بشأن علاقة كائنات مريخية بالأرض، وقد يكون هذا الاعتقاد نال تشجيعا بعد الصور المثيرة التي التقطت لسطحه من قبل بعض المركبات غير المأهولة والتي جالت غلافه الخارجي منذ السبعينات، لذا يعتقد العديد من العلماء بأن الضغط الجوي في المريخ كان في يوم ما شبيها بالضغط الجوي للأرض، وأن هناك انهارا كانت تجري على سطحه في يوم من الأيام فضلاً عن اكتشاف وجود الجليد في طبقات قشرية ثانوية، كل هذا ساعد على التصورات الأولى لتلك الصور المثيرة التي تكلم عنها الكثير ممن درس الصور المرسلة عن سطحه، إذ أنها تضم صورا لأشكال هرمية رباعية الأوجه(تشبه الأهرام المصرية وهرم الزقورة العراقية وأهرام المايا في المكسيك)، فضلاً عن اعتقاد بعض المحللين بأن صوراً التقطت للقطب الجنوبي للمريخ قد تكون عبارة عن أطلال لمدينة قديمة! هذا غير ما التقط من صور لمجسم ضخم يشبه وجه آدمي وجهه إلى السماء، فضلاً عن تكوين مستدير تماما استبعد المحللون أن يكون قد وجد بفعل الطبيعة، بل أن بعضهم صرح بأنه وجد بفعل ذكاء من نوع معين.

وقال جلال الدين السيوطي (وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة رضي الله عنه ان ذا القرنين لما بلغ الجبل الذي يقال له قاف، ناداه ملك من الجبل أيها الخاطيء ابن الخاطيء جئت حيث لم يجيء أحد قبلك ولا يجئ أحد بعدك، فأجابه ذو القرنين وأين انا قال له الملك أنت في الأرض السابعة، فقال ذو القرنين ما ينجيني فقال ينجيك اليقين فقال ذو القرنين اللهم ارزقني يقينا فأنجاه الله، قال له الملك انه ستأتي إلى قوم فتبنى لهم سدا فإذا أنت بنيته وفرغت منه فلا تحدث نفسك انك بنيته بحول منك أو قوة فيسلط الله على بنيانك أضعف خلقه فيهدمه، ثم قال له ذو القرنين ما هذا الجبل قال هذا الجبل الذي يقال له قاف وهو أخضر والسماء بيضاء، وإنما خضرتها من هذا الجبل وهذا الجبل أم الجبال والجبال كلها من عروقه فإذا أراد الله أن يزلزل قرية حرك منه عرقاً)([235])..

وقول الملك (جئت حيث لم يجيء أحد قبلك ولا يجيء أحد بعدك) يخبرك عن البعد الذي وصل إليه ذو القرنين عن الأرض، والكوكب الذي وصله والذي سماه الملك (الأرض السابعة) وما يلفت النظر هو الشرح الذي قدمه الملك عن الجبل الذي سماه (قاف) وهو الذي له علاقة بكل الحركة الجيولوجية على الكوكب وهي علاقة قد يستطيع العلم فك رموزها يوما من الأيام.

وقال الطبري (حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا زيد بن حباب عن ابن لهيعة، قال: حدثني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن شيخين من نجيب، قال: أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى عقبة بن عامر نتحدث، قالا: فأتياه فقالا: جئنا لتحدثنا، فقال: كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرجت من عنده، فلقيني قوم من أهل الكتاب، فقالوا: نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستأذن لنا عليه، فدخلت عليه، فأخبرته، فقال: ما لي وما لهم، ما لي علم إلا ما علمني الله، ثم قال: أسكب لي ماء، فتوضأ ثم صلى، قال: فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه، ثم قال: أدخلهم علي، ومن رأيت من أصحابي فدخلوا فقاموا بين يديه، فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا، وإن شئتم أخبرتكم، قالوا: بلى أخبرنا، قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين، وما تجدونه في كتابكم: كان شابا من الروم، فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء، فقال له ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به، فقال: ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي، ثم علا به فقال: ما ترى؟ قال: أرى الأرض، قال: فهذا اليمُّ محيط بالدنيا) ([236]).

والرواية لا تحتاج أي بيان بعد قوله (فعلا به في السماء، فقال له ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به، فقال: ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي، ثم علا به فقال: ما ترى؟ قال: أرى الأرض، قال: فهذا أليم محيط بالدنيا) والشرح دقيق لعملية الصعود في الفضاء فكل من يعلو في السماء يرى المباني والمدن تبعد شيئا فشيئا فأول ما يرى هو مدينته أو قريته الكبيرة وهي تصغر شيئا فشيئا ثم يرى المدن المحيطة وهي تصغر شيئا فشيئا ثم يرى الأرض كذلك وقوله (أرى الأرض) يؤكد كلامنا بان مصطلح الأرض يستعمل في هذه الروايات للدلالة على الكرة الأرضية وليس الأرض التي قد يقصدها المتكلم وهي القطعة المعينة على الكرة الأرضية, وقوله(فهذا اليم محيط بالدنيا) يؤكد ما قلناه حول البحر سابقا بأنه الأصل اللغوي فاليم هو البحر والبحر هو ما استبحر وانبسط بنحو كبير واسع وهو هنا الفضاء الخارجي. ولا نستبعد الخلط في هذا الحديث فالمعروف أن باني الإسكندرية هو الإسكندر المقدوني وهو رجل وثني، لذا فنحن نقول دائما بأن الرواة كانوا يمزجون بين ما سمعوه وبين ما يظنونه فيوردونه للناس ككلام واحد متصل صادر من نفس المصدر فيختلط الأمر على من يأتي بعدهم.

خلاصة القول أن ذا القرنين ذهب برحلته لأربعة اتجاهات، وعلى أربع مراحل الأولى أرضية والاثنتان اللاحقتان فضائيتان أما الرابعة فقد يكون أنها رحلة في بُعد آخر. والله أعلم.


يأجوج ومأجوج في القرآن

بعدما استعرضنا الأدلة النقلية التي تفيد بأن رحلة ذي القرنين كانت في الفضاء, يكون من نافلة القول أن نحكم بان كل من التقاه في رحلته, يكون من خارج أجواء الأرض.

فسبحانه وتعالى يقول:

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (النحل:49)

فالدواب إذن موجودة في السموات والأرض.

وقال تعالى:

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (الشورى:29)

فقوله تعالى: وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ يشير الى وجود الكائنات الحية في السموات والأرض.فتعالى يقول (فيهما) أي في الأرض والسماء.

ومن الأسماء التي ارتبطت بذكر ذي القرنين هو اسم يأجوج ومأجوج، وقد ورد اسم يأجوج ومأجوج في موردين في القرآن..

المورد الأول: في سورة الكهف، لمّا قصَّ سبحانه وتعالى قصة ذي القرنين:

وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (الكهف:83).

إلى قوله تعالى:

حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (99) سورة الكهف (93 الى 96).

المورد الثاني: في سورة الأنبياء:

حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (الأنبياء:96) وهي الآية التي ستكون محور كلامنا في هذا البحث..

فهذه الآية تضم مفاتيح للتفسير، تمكّن القاريء من معرفة المقصود فيها إذا تتبع الأصول اللفظية لها، وقياسها بما ورد عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام)..

وحتى نحاول الوصول إلى اقرب نقطة من الفهم الصحيح للآية، يجب علينا أن نقارن الألفاظ بمثيلاتها في الآيات الأخرى:

اللفظ الأول: (فُتِحَتْ)

ورد هذا اللفظ بصيغة (المبني للمجهول) في أربعة موارد في القرآن الكريم فضلاً عن المورد السابق هي:

مورد سورة النبأ:

وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً (النبأ:19).

ومورد سورة الزمر الأول: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا (الزمر:71) ومورد سورة الزمر الثاني وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا (الزمر:73) ومورد سورة الأعراف إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ (لأعراف:40) ومن خلال الآيات الأربع السالفة نعلم بأن الفتح بصيغة المبني للمجهول قد يكون الإخفاء فيه للفاتح وهويته تابعا للتفخيم، لأن الذي من وظيفته الفتح للسماء وللجنة والنار هم الملائكة عمال الله، وهم المقصودون من الكلام بصيغة الجمع الذي ورد في القرآن.

فأما اختصاص الملائكة بفتح السماء فهو وارد في القرآن في:

قوله تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (القمر:11)

والفتح هنا بصيغة الجمع مما يدل على أن القصد فيه أن الفعل لله لكنه كان بتوسط الملائكة المسخرين بهذا.وقد ورد ارتباط الملائكة بالأبواب في سورة الرعد جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (الرعد:23) فالملائكة هم من يدخل من الأبواب.

قوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً (الإسراء:95).

وهذه الآية تدل على أن السماء هي موطن الملائكة ومنها تنزل.

وقوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (الفرقان:25).

وهي تدل على نفس المدلول السابق.

وقوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (الجـن:8) والحرس هنا هم الملائكة وهو نفس المدلول السابق.

والفتح لفظ مختص بالسماء إذ لم نجد سبحانه وتعالى قد عبر عن الأرض بالفتح على خلاف (التشقق) فهو لفظ اشتركت به الأرض والسماء, قال تعالى:

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (الفرقان:25) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (قّ:44).

وأكثر ما استعمل (الفتح) للقدر والقضاء والأرزاق كقوله تعالى:

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (البقرة:76) والقائلون هم اليهود والذي فتحه اله عليهم هو الهداية الى أوصاف النبي الموعود.

وقوله تعالى:

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (الأنعام:44) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (المؤمنون:77) إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (الفتح:1) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (سـبأ:26) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (فاطر:2) عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (لأعراف:89) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الشعراء:118).

ولما كان سبحانه وتعالى يقول:

وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (الذريات:22).

علمنا ان الفتح متصل بالسماء أينما ورد بدون تخصيص فإذا خُصص كان له دلالة المخصِّص مثل قوله تعالى:

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ (يوسف: من الآية65)

فالفتح هنا للمتاع وقام به أبناء يعقوب عليه السلام.

وما نلحظه هنا إنه سبحانه وتعالى قال (فُتحَت) مع انه يتحدث عن يأجوج ومأجوج وهم من المخلوقات فكيف تُفتح هذه المخلوقات؟!

لعل الجواب سيكون على تقدير كلام يعود اليه معنى الفتح وذلك بتقدير كلمة معينة بين (فتحت) و(يأجوج ومأجوج) وعن هذا قال العلامة المجلسي (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج أي فتحت جهتهم، والمعنى انفرج سدهم بسقوط أو هدم أو كسر وذلك من أشراط الساعة) ([237]) وقال في مورد آخر (ذلك أنهم يسيحون في بلادهم حتى إذا وقعوا إلى ذلك الردم حبسهم فيرجعون فيسيحون في بلادهم فلا يزالون كذلك حتى نقرب الساعة وتجيء أشراطها، فإذا جاء أشراطها وهو قيام القائم عليه السلام فتحه الله عز وجل لهم، وذلك قوله عز وجل: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) ([238])..

ولكنا لو أخذنا بعين الاعتبار القراءة الثانية الواردة لهذه الكلمة والتي وردت عن ابن عامر وهي(فُتّحت)([239]) بالتشديد والفرق هو أن (فُتّحت) تفيد التكثير والمبالغة، ونحو هذه القراءة ما ورد في سورة الزمر:

الزمر وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا (الزمر:71) إذ قرأها الأكثر بالتشديد(فُتّحت)([240]).

وكذلك نفس الكلمة وردت في الزمر في قوله وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا (الزمر: من الآية73) إذ قراها الأكثر بالتشديد(فُتّحت).

وكذلك مورد سورة النبأ إذ قرأ الأكثر وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً (النبأ:19) (فُتّحت) بالتشديد.

والمورد الوحيد الذي أبقاه حفص بقراءته عن عاصم (وهي القراءة الشائعة اليوم) على حاله بدون تغيير هو في الأعراف في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ (لأعراف: من الآية40).

أقول: لو لاحظنا الموارد التي جاءت بها (فُتّحت) لرأينا أنها الجنة والنار والسماء، واللفظ بالجمع يفيد التكثير والتفخيم والمبالغة، وهذا يتناسب مع أهمية الجنة والنار والسماء، فيبقى عندنا مورد الأنبياء وهو المرتبط بيأجوج ومأجوج وهو لن يخرج عن هذه الاحتمالات فكلها ليست على الأرض بالتأكيد! ومن الجدير بالذكر أن الآية قالت: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ مما يعني أن هذه الأبواب تفتح لهذه المهمة ولكن ليس لهؤلاء!فأبواب السماء تفتح للهبوط من السماء وتفتح للصعود من الأرض.

لذا لا محيص من القول بان يأجوج ومأجوج تُفتّح هي وبدون أي تقدير محذوف، لكن كيف؟! في الإجابة على هذا السؤال فإننا يجب أن نربط بين طريقة نزولهم من السماء إلى الأرض وهو ما عبّرت بعض الأحاديث عنه(بالنزول إلى الدنيا) كما سنرى، فالفتح لما ارتبط بالسماء فكل فتح إذن يكون منها إلا ما استثني بلفظ صريح، إذاً فالآية القرآنية مع الحديث يؤكدان على النزول من السماء، وهي عملية فتح يأجوج ومأجوج والتي عبر عنها القرآن بالتشديد لضخامتها وهولها ونتيجتها العظيمة على الحياة على الأرض وإن كان ذلك لأمد قصير كما سنرى.

اللفظ الثاني: (حَدَب)

الحدب هو الانحدار او الشيء العالي الذي له سفح قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: الحدب: حدور في صَبَب([241]).

وقال الجوهري: الحدب ما ارتفع من الأرض([242]) وهو الغليظ المرتفع من الأرض([243]).

وفسر الطريحي الآية بقوله:الحدب بالتحريك المرتفع من الأرض ومعناه يظهرون من غليظ الأرض ومرتفعها([244]).

لكن الذي يظهر من تتبع أصل الكلمة يعلم أن الحدب كل مكان عالٍ بصرف النظر أكان أرضياً أم لا، إذ أن الذين ربطوا بين الحدب والمرتفع (الأرضي) لم يخطر بحسبانهم أن سيأتي يوم يكون فيه الناس في الجو في الطائرات أو السفن الفضائية، وعليه يمكن أن يكون الـ(الحَدَب) منطبقا على ذلك! فما كان أمامهم إلا أطلاق ذلك اللفظ على المرتفع الأرضي، وأما من انتبه لذلك مثل احمد بن زكريا فقال([245]) ((حدب) الحاء والدال والباء أصل واحد وهو ارتفاع وهو ارتفاع الشيء. فالحدب ما ارتفع من الأرض).. ومع أنه يقول ابتداء(وهو ارتفاع الشيء) لم يجد صاحب المقاييس مجالا للتطبيق إلا الأرض فقال في آخر العبارة المارة (فالحدب ما ارتفع من الأرض)، وإلا فرأيه صحيح, لذا فكل حدب يكون معناها كل مكان مرتفع من غير تخصيص ذلك بالأرض فقد يكون الحدب أمام الناظر في الجو.

وروي عن عبد الله بن مسعود وابن عبّاس ومجاهد وأبو الصهباء أنه قرأ الآية(من كل جدث ينسلون بالجيم والثاء مثل قوله من الأجداث إلى ربهم ينسلون)([246]) فهنا ليس هناك (حدب) حتى نفترض شيئا ونستدل عليه، بل أن القراءة تقول (جدث) ولم يختلف العرب على أن معنى (جدث) هو(القبر)، ولو صحت هذه القراءة لكان معنى الآية أن الذي يفتح هو (الأجداث) أو المركبات التي تُقِل يأجوج ومأجوج بكثرة ومبالغة لعددهم الكبير، لكوننا نعلم يقينا بان يأجوج ومأجوج ليسوا في قبور على الأرض وليسوا بأمواتٍ أصلاً!.

وقد ورد تشبيه الحوت بالقبر في بعض الروايات، منها الرواية التي تذكر أن بعض اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن (قبر سار بصاحبه) فلم يعرف فأجابهم أمير المؤمنين عليه السلام (أما القبر الذي سار بصاحبه فالحوت سار بيونس في بطنه البحار السبعة)([247])، واعتقد أن وجه الشبه بين القبر والحوت ومركبات يأجوج ومأجوج، هو أنها كلها مجوفة من الداخل وهي تنساب كانسياب جسم الطائر، وبشكل يسمح بشق الهواء كما القبر يُشق في الأرض ويُجعل له لحد مجوف من جانبه وكذلك جسم السفينة والغواصة، والله اعلم.

اللفظ الثالث:(ينسلون)

من يراجع كتب اللغة يجد أنهم أعطوا لهذا اللفظ معنيين: الأول هو الإسراع، فينسلون أي يسرعون ويهرولون([248]) والمعنى الثاني: هو الإسقاط والانفصال, قال ابن السكّيت: وقد أنسلت الناقة وبرها، إذا ألقته. وقد نسلت بولد كثير تنسل. وقد نسل الوبر ينسل وينسل، إذا سقط، نسلاناً. قال الله عز وجل: (إلى ربهم ينسلون)([249]) إذن فابن السكّيت الأهوازي لا يوافق على رأي بعض اللغويين في (ينسلون) ويرى انه يعني: يسقطون، ولكنه طبعاً سقوط في سرعة، ولكن سقوط من ماذا؟! فالآية على رأيه تقول:وفتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل مرتفع يسقطون! إذن يأجوج ومأجوج لا يأتون من المرتفعات الأرضية، والأراضي الغليضة كما قالوا! بل هم يسقطون من السماء! ويالها من نتيجة ستقلب المعنى رأساً على عقب.

وهذا يناسب ما ورد في شأن الآية (عن تفسير علي بن إبراهيم: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون قال: إذا كان آخر الزمان خرج يأجوج ومأجوج إلى الدنيا ويأكلون الناس)([250]).

فقوله (إلى الدنيا) يعني السماء الدنيا، إذاً هم يأتون من خارج السماء الدنيا وليس من داخلها المحيط بالأرض!وهنا نفهم لمَ احتمل الطوسي إن معنى ينسلون (أي يسرعون لأنه إخراج بحدة)([251]) فهذه المخلوقات تخرج إلى السماء الدنيا آتية من الفضاء الخارجي، ويكون دخولهم إلى الدنيا بقوة وحدّة، سواء بالسرعة أو بالعنف الذي لا يستطيع الناس مقاومته لتقدمه أو لعنفه الذي لا يقاوم كما سيأتيك في الروايات الواردة في الموضوع.


يأجوج ومأجوج في المأثور

روى الشيخ الكليني في الكافي (عن الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن العباس بن العلاء، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الخلق فقال: خلق الله ألفا ومائتين في البر، وألفا ومائتين في البحر وأجناس بني آدم سبعون جنسا، والناس ولد آدم ما خلا يأجوج ومأجوج.) ([252]).

وهذا الحديث، وبضميمة ما يعرف اليوم من الخلق الموجودين فوق الأرض، يشير الى أن يأجوج ومأجوج ليس فقط لا ينتمون لآدم كسائر البشر، بل هم لا يوجدون على كوكبنا أصلاً!

وروى المتقي الهندي في كنز العمال ن النبي صلى الله عليه وآله (بعثني الله حين أسري بي إلى يأجوج ومأجوج فدعوتهم إلى دين الله وإلى عبادته، فأبوا أن يجيبوني، فهم في النار مع من عصى من ولد آدم وولد إبليس)([253]).

ومن جَعْله صلى الله عليه وآله وسلم ليأجوج ومأجوج نوعاً ثالثاً مع ولد آدم وولد إبليس نعلم أنهم ليسوا من البشر.

وأورد الشيخ الصدوق رواية طويلة كاملة الدلالة سنوردها مع بعض التوضيح، قال الصدوق (وانطلق ذو القرنين يسير على وجهه حتى أمعن في البلاد يؤم في المغرب، وجنوده يومئذ المساكين، فأوحى الله جل جلاله إليه يا ذا القرنين أنت حجتي على جميع الخلائق ما بين الخافقين من مطلع الشمس إلى مغربها، وحجتي عليهم، وهذا تأويل رؤياك فقال ذو القرنين: يا إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره غيرك، فأخبرني عن هذه الأمة بأية قوة أكابرهم؟ وبأي عدد أغلبهم، وبأية حيلة أكيدهم، وبأي صبر أقاسيهم، وبأي لسان أكلمهم، وكيف لي بأن أعرف لغاتهم، وبأي سمع أعي كلامهم، وبأي بصر أنفذهم وبأي حجة أخاصمهم، وبأي قلب أعقل عنهم، وبأية حكمة أدبر أمورهم وبأي حلم أصابرهم، وبأي قسط أعدل فيهم، وبأي معرفة أفضل بينهم، وبأي علم أتقن أمورهم، وبأي عقل أحصيهم، وبأي جند أقاتلهم؟ فإنه ليس عندي مما ذكرت شيء يا رب، فقوني عليهم فإنك الرب الرحيم الذي لا تكلف نفسا إلا وسعها، ولا تحملها إلا طاقتها فأوحى الله جل جلاله إليه أني سأطيقك ما حملتك، وأشرح لك فهمك فتفقه كل شيء، وأشرح لك صدرك فتسمع كل شيء، وأطلق لسانك بكل شيء، وأفتح لك سمعك فتعي كل شئ، وأكشف لك عن بصرك فتنفذ كل شيء وأحصي لك فلا يفوتك شيء، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء، وأشد لك ظهرك فلا يهولك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسدد لك رأيك فتصيب كل شيء، وأسخر لك جسدك فتحسن كل شيء، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلها جندين من جنودك النور يهديك، والظلمة تحوطك، وتحوش عليك الأمم من ورائك فانطلق ذو القرنين برسالة ربه عز وجل، وأيده الله تعالى بما وعده فمر بمغرب الشمس فلا يمر بأمة من الأمم إلا دعاهم إلى الله عز وجل فإن أجابوه قبل منهم وإن لم يجيبوه أغشاهم الظلمة، فأظلمت مداينهم وقراهم وحصونهم وبيوتهم ومنازلهم، وأغشيت أبصارهم، ودخلت في أفواههم وآنافهم وآذانهم وأجوافهم، فلا يزالون فيها متحيرين حتى يستجيبوا لله عز وجل ويعجوا إليه حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجد عندها الأمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه ففعل بهم ما فعل بمن مر به من قبلهم حتى فرغ مما بينه وبين المغرب ووجد جمعا وعددا لا يحصيهم إلا الله وبأسا وقوة لا يطيقه إلا الله عز وجل، وألسنة ومختلفة وأهواء متشتتة وقلوبا متفرقة)([254]).

فانتبه لعلاقة الظلمة والنور في رحلته، وهذا لا يحصل في الأرض وانظر لقوله (فمر بمغرب الشمس).

تتمة الرواية:(ثم مشى على الظلمة ثمانية أيام وثمان ليال وأصحابه ينظرونه حتى انتهى إلى الجبل الذي هو محيط بالأرض كلها... فإذا هو بأمة لا يكادون يفقهون قولا وإذا ما بينه وبين الردم مشحون من أمة يقال لها: يأجوج ومأجوج .... فهذه قصتهم من يوم خلقهم الله عز وجل إلى يوم يفنيهم ثم إنهم جعلوا في زمان ذي القرنين يدورون أرضا أرضاً من الأرضين، وأمة أمة من الأمم وهم إذا توجهوا لوجه لم يعدلوا عنه أبدا ولا ينصرفون يمينا ولا شمالا ولا يلتفتون).

فذو القرنين وهو في منطقة (الجبل الذي يحيط بالأرض كلها) يؤكد انه ليس في الأرض بل خارج غلافها الجوي وقوله في الرواية (وإذا ما بينه وبين الردم مشحون من أمة يقال لها: يأجوج ومأجوج) إذن هم خارج الأرض، بل في مكان ما في الفضاء!.

وانتبه لقوله: (ثم إنهم جعلوا في زمان ذي القرنين يدورون أرضا أرضاً من الأرضين) وهي صريحة في كونهم يتنقلون على الكواكب كوكبا كوكباً.

تتمة الرواية (فلما أحست تلك الأمم بهم وسمعوا همهمتهم استغاثوا بذي القرنين وذو القرنين يومئذ نازلا في ناحيتهم فاجتمعوا إليه وقالوا: يا ذا القرنين إنه قد بلغنا ما آتاك الله من الملك والسلطان، وما ألبسك الله من الهيبة، وما أيدك به من جنود أهل الأرض ومن النور والظلمة، وإنا جيران يأجوج ومأجوج، وليس بيننا وبينهم سوى هذه الجبال، وليس لهم إلينا طريق إلا هذين الصدفين ولو ينسلون أجلونا عن بلادنا لكثرتهم حتى لا يكون لنا فيها قرار،... فلا نشك أنهم يملؤون الأرض ويجلون أهلها منها ويفسدون فيها، ونحن نخشى كل وقت أن يطلع علينا أوائلهم من هذين الجبلين، وقد آتاك الله عز وجل من الحيلة والقوة ما لم يؤت أحدا من العالمين، فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد . قالوا: ومن أين لنا من الحديد والنحاس ما يسع هذا العمل الذي تريد أن تعمل قال: إني سأدلّكم على معدن الحديد والنحاس، فضرب لهم في جبلين حتى فتقهما فاستخرج لهم منهما معدنين من الحديد والنحاس، قالوا: فبأي قوة نقطع الحديد والنحاس؟ فاستخرج لهم معدنا آخر من تحت الأرض يقال لها: السامور وهو أشد بياضا من الثلج وليس شيء منه يوضع على شيء إلا ذاب تحته فصنع لهم منه أداة يعملون بها - وبه قطع سليمان بن داود عليه السلام أساطين بيت المقدس وصخوره جاءت بها الشياطين من تلك المعادن - فجمعوا من ذلك ما اكتفوا به فأوقدوا على الحديد حتى صنعوا منه زبرا مثال الصخور، فجعل حجارته من حديد، ثم أذاب النحاس فجعله كالطين لتلك الحجارة، ثم بنى وقاس ما بين الصدفين فوجده ثلاثة أميال فحفر له أساسا حتى كاد أن يبلغ الماء وجعل عرضه ميلا وجعل حشوه زبر الحديد، وأذاب النحاس فجعله خلال الحديد فجعل طبقة من نحاس وأخرى من حديد حتى ساوى الردم بطول الصدفين، فصار كأنه برد حبرة من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد، فيأجوج ومأجوج ينتابونه في كل سنة مرة، وذلك أنهم يسيحون في بلادهم حتى إذا وقعوا إلى ذلك الردم حبسهم، فرجعوا يسيحون في بلادهم، فلا يزالون كذلك حتى تقرب الساعة وتجيئ أشراطها فإذا جاء أشراطها وهو قيام القائم عليه السلام فتحه الله عز وجل لهم، وذلك قوله عز وجل حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ.

وروى الترمذي في سننه (عن عمران بن حصين قال كنا مع النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم في سفر فتفاوت بين أصحابه في السير، فرفع رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم صوته بهاتين الآيتين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) - إلى قوله - وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}. فلما سمع ذلك أصحابه حثوا المطي وعرفوا أنه عند قول يقوله. فقال هل تدرون أي يوم ذلك؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: ذلك يوم ينادى الله فيه آدم فيناديه ربه فيقول يا آدم ابعث بعث النار فيقول أي رب وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم الذي بأصحابه قال اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم وبنى إبليس: قال فسرى عن القوم بعض الذي يجدون، قال اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة)([255]).

فانتبه لقول النبي صلى الله عليه وآله: (إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم وبني إبليس) مما يثبت أن يأجوج ومأجوج خلق يختلفون جنساً عن بني آدم بل هم خليقة أخرى.

وروى حسن الحلي في المحتضر (فقال الحسن (عليه السلام) (لأمير المؤمنين عليه السلام): أريد أن تريني يأجوج ومأجوج والسد الذي بيننا وبينهم. فسارت السحابة فوق الريح فسمعنا لها دويا كدوي الرعد، وعلت في الهواء وأمير المؤمنين يقدمنا حتى انتهينا إلى جبل شامخ في العلو وإذا شجرة جافة قد تساقطت أوراقها وجفت أغصانها. فقال الحسن (عليه السلام): ما بال هذه الشجرة قد يبست؟ فقال (عليه السلام) له: سلها فإنها تجيبك. فقال الحسن (عليه السلام): أيتها الشجرة! مالك قد حدث بك ما نراه من الجفاف؟ فلم تجبه. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): بحقي عليك إلا ما أجبته. قال الراوي : فوالله لقد سمعتها تقول: لبيك لبيك يا وصي رسول الله وخليفته، ثم قالت: يا أبا محمد! إن أمير المؤمنين كان يجيئني في كل ليل وقت السحر ويصلي عندي ركعتين ويكثر من التسبيح، فإذا فرغ من دعائه جاءته غمامة بيضاء ينفح منها ريح المسك وعليها كرسي فيجلس عليه وتسير به وكنت أعيش ببركته، فانقطع عني منذ أربعين يوما فهذا سبب ما تراه مني. فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وصلى ركعتين ومسح بكفه عليها فاخضرت وعادت إلى حالها. ثم أمر الريح فسارت بنا وإذا نحن بملك يده في المغرب وأخرى بالمشرق، فلما نظر الملك إلى أمير المؤمنين قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أنك وصيه وخليفته حقا وصدقا. فقلنا: يا أمير المؤمنين! من هذا الذي يده في المغرب والأخرى في المشرق؟ فقال (عليه السلام): هذا الملك الذي وكله الله - عز وجل - بالليل والنهار، فلا يزول إلى يوم القيامة، وإن الله تعالى جعل أمر الدنيا إلي وإن أعمال الخلائق تعرض في كل يوم علي ثم ترفع إليه - تبارك وتعالى -. ثم سرنا حتى وقفنا على سد يأجوج ومأجوج، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) للريح: اهبطي بنا مما يلي هذا الجبل، وأشار بيده إلى جبل شامخ في العلو، وهو جبل الخضر (عليه السلام)، فنظرنا إلى السد وإذا ارتفاعه مد البصر، وهو أسود كقطعة ليل دامس، يخرج من أرجائه الدخان. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا محمد! أنا صاحب هذا الأمر على هؤلاء العبيد. قال سلمان: فرأيت أصناما ثلاثة طول أحدها مائة وعشرون ذراعا والثاني طوله أحد وسبعون والثالث مثله ولكنه يفرش إحدى أذنيه تحته ويلتحف بالأخرى. ثم إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر الريح فسار بنا إلى جبل (قاف) فانتهينا إليه وإذا هو من زمردة خضراء وعليها ملك على صورة النسر، فلما نظر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال الملك: السلام عليك يا وصي رسول الله وخليفته أتأذن لي في الكلام؟ فرد عليه السلام وقال: إن شئت فتكلم وإن شئت أخبرتك عما تسألني عنه. فقال الملك: بل تقول أنت يا أمير المؤمنين. فقال: تريد أن آذن لك أن تزور الخضر. قال: نعم. قال: قد أذنت لك. فأسرع الملك بعد أن قال: بسم الله الرحمن الرحيم. ثم مشينا على الجبل هنيئة فإذا الملك قد عاد إلى مكانه بعد زيارة الخضر. فقلت: يا أمير المؤمنين! رأيت الملك ما زار الخضر حتى أخذ الإذن. فقال (عليه السلام): يا سلمان! والذي رفع السماء بغير عمد لو أن أحدهم رام أن يزول من مكانه بقدر نفس واحد لما زال حتى آذن له وكذلك يصير حال ولدي الحسن بعدي ثم الحسين بعده ثم تسعة من ولد الحسين تاسعهم قائمهم. فقلنا: ما اسم الملك الموكل بقاف؟ فقال: برجائيل. فقلنا: يا أمير المؤمنين! كيف تأتي كل ليلة إلى هذا الموضع وتعود؟ فقال (عليه السلام) كما أتيت بكم، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إني لأملك من ملكوت السماوات والأرض ما لو علمتم ببعضه لما احتمله جنانكم) ([256])..

وروى في البحار (عن حذيفة قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن يأجوج ومأجوج، قال: يأجوج أمة، ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كل قد حمل السلاح، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز، قلت: يا رسول الله وما الأرز؟ قال شجر بالشام طويل، وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلا أكلوه، من مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام، وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية..) ([257])


صفات أقوام يأجوج ومأجوج

من الصفات الكثيرة التي وردت في أقوام يأجوج ومأجوج:

ما ورد في وصف التُرك عن أمير المؤمنين عليه السلام (هم سيارة ليس لهم أصل، هم من يأجوج ومأجوج، لكنهم خرجوا يغيرون على الناس، فجاء ذو القرنين فسد بينهم وبين قومهم، فذهبوا سيارة في الأرض)([258]).

ووصف الجزء هنا ينطبق عل الكل، فيأجوج ومأجوج هم سيارة، وهذا المصطلح يطلق منذ القديم على الكواكب التي تسير حول النجوم، وهو مصطلح جدير بالملاحظة هنا لكونه ينبيء عن وجود يأجوج ومأجوج على احد الكواكب السيارة.

ما ورد في الصفات الجسمية: فصنف منهم في طول شبر،وصنف منهم مفرط الطول ومن العمالقة وكأنهم أشجار الأرز([259]), ومنهم من يكون طوله وعرضه سواء وهم أقوى الأصناف الثلاثة وأشدها([260]), إذاً يأجوج ومأجوج خَلْق على ثلاثة أصناف فكما الإنسان فيه الأبيض والزنجي والأصفر فكذلك هم ينقسمون من جهة الطول إلى ثلاثة أقسام.

وكما كانت أطوالهم لا تناسب الأرض، وقد تكون قد خلقت لتناسب أجوائهم، فكذلك هيئاتهم الجسمية فهي متوحشة بمقاييسنا فهم: يملكون مخالب في أيديهم وأنياب كأنياب السباع، وتزاوج كما البهائم, وأصواتهم كأصوات الذئاب من القوة والنبرة الصوتية، ولهم شعور طويلة على أجسادهم ولهم آذان عظيمة.

وهم خلق من خلق الله، كثير فيهم يشبهون الإنس وهم أشباه البهائم، يأكلون من العشب، ويفترسون الدواب والوحوش كما تفترسها السباع، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب وكل ذي روح مما خلق الله تعالى، وليس مما خلق الله جل جلاله خلق ينموا نماهم وزيادتهم([261]).

وورد أنهم قد نقصوا في الأبدان نقصا شديدا وهم في طول الغلمان.

وورد أنهم على مقدار واحد في الخلق والصورة.

وورد أنهم عراة حفاة لا يغزلون ولا يلبسون ولا يحتذون.

وورد إن عليهم وبر كوبر الإبل يواريهم ويسترهم من الحر والبرد.

وورد أن لكل واحد منهم أذنان أحدهما ذات شعر والأخرى ذات وبر، ظاهرهما وباطنهما.

وورد أن لهم مخالب في موضع الأظفار. وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها.

وورد أنهم يرزقون تنين البحر في كل عام يقذفه إليهم السحاب فيعيشون به عيشا خصبا ويصلحون عليه ويستمطرونه في إبانه كما يستمطر الناس المطر في إبان المطر، وإذا قذفوا به خصبوا وسمنوا وتوالدوا وكثروا وأكلوا منه حولا كاملا إلى مثله من العام المقبل، ولا يأكلون معه شيئا غيره، وهم لا يحصى عددهم إلا الله عز وجل الذي خلقهم، وورد أنهم يعلمون مواعيد موتهم أذ أنه لا يموت منهم ذكر حتى يولد له ألف ولد ولا تموت منهم أنثى حتى تلد ألف ولد، فبذلك عرفوا آجالهم، فإذا ولد ذلك الألف برزوا للموت، وتركوا طلب ما كانوا فيه من المعيشة والحياة.

وكل هذه الصفات ليست لمخلوق على كوكبنا.

وقت فتحهم:

إن الآيات القرآنية لا تذكر توقيتا واضحا لفتح يأجوج ومأجوج (ومن الجدير هنا أن نذكر بأن يأجوج ومأجوج يفتحون ولا يخرجون او يظهرون (كما ذهب بعضهم)وهناك فرق بين هذه المصطلحات) إذ أن لفظ (خرج) يكون للشيء الذي يكون في مكان لثم م يُلحظ خلوّه منه كما قال تعالى:

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (القصص:21)

والمعروف أن موسى خرج من مدينة فرعون على حين غفلة خوفاً من أن يقتله فرعون.وقوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (البقرة:149)

والمعروف أن النبي خرج من مكة بسرّية خوفا من قريش أن يقتلونه

وقوله تعالى:

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (البقرة:150).

وقوله تعالى:

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة:240).

وقوله تعالى:

وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (المائدة:61).

والآيات الكريمة تشير الى (الخروج) وهو الكون في مكان آخر حتى لو لم يعلم احد بهذا الكون الجديد والمكان الجديد.

أما (الظهور) فيتميز بأنه الكون في مكان بعد أن يكون في آخر بشرط أن يعلم الناس بهذا المكان الجديد قال تعالى:

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا (النور: من الآية31) أي ظهر للناس وبان لهم.مثل الوجه والكفين.

وقال تعالى:

كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (التوبة:8).

وقال تعالى:

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (الكهف:20).

وقال تعالى:

وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (الزخرف:33).

وقال تعالى:

وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (التحريم:3).

وقال تعالى:

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الأنعام:151).

وقال تعالى:

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم:41).

فالظهور هو الخروج بشرط معلوميته لغير الخارج، وهذا المعنى لم يستعمل في كل مورد قرآني إلّا أن استعمال بعضه واضح الدلالة والقصد.. من هنا فعدم استعمال القرآن لأحد المصطلحين مع يأجوج ومأجوج، يرمز إلى التميز في القضية والخصوصية حتى في المصطلح المستعمل لذا قال تعالى:

حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (الأنبياء:96).

ولم يستعمل معهم ما استعمله في سورة البقرة في قوله تعالى:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (البقرة:243).

فاستعمل لهم (الخروج) ولم يستعمل الفتح!،بينما عن نزول يأجوج ومأجوج إلى الأرض بالفتح، والسؤال المنطقي هو متى يحدث ذلك؟

والمثير أن ابن عباس وصف نزولهم الأرض بأدق صورة عندما (رأى غلمانا ينزو بعضهم على بعض، فقال هكذا يخرج يأجوج ومأجوج)([262])و هذا ينبئك عن أعدادهم الهائلة والتي لا تجد الأرض معها متسعا، فيكون بعضهم ينزو على بعض من جراء اضطرابهم، وكثرتهم، وبحثهم عما يأكلونه وما يشربونه ومن يقتلونه.فلو طبقنا المحصلة العددية لما أجمعت الروايات على أن احدهم لا يموت حتى يرى ألف مولود من ذريته ينتج انه وفي غضون ألف سنة يكون النمو السكاني عندهم لكل مليون:

1000,000 نسمة × 1000 سنة = 1000,000,000 مليار نسمة

وهذا شيء لا يذكر لو نظرنا للآية التي تقول: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (الكهف:99) فالذي يترجح هو أن عددهم في ذلك الوقت كان هائلا لذا عبرت عنهم الآية بهذا التعبير فإذا كان عددهم عشرة ملايين (كحد أدنى) وكان الوقت الفاصل بين بناء الردم وفتح يأجوج ومأجوج هو أربعة آلاف سنة (على أقل تقدير) ينتج لدينا أنهم الآن وفي بداية القرن الحادي والعشرين يكون عددهم أكثر من أربعين مليار نسمة! وهو عدد ضخم لو علمنا بأن المشاكل الاقتصادية والصحية والاجتماعية ناتجة في كثير من الدول عدد السكان هذا وكل سكان الكرة الأرضية لم يتجاوز السبعة مليارات نسمة فكيف الحال بأربعين مليار نسمة من المتوحشين والهمجيين؟! وما حجم الدمار والخراب الذي سيتركونه على الأرض، مع العلم بان الحياة بعد فتحهم ستستمر، وأفضل من عبر عن ذلك نبي الله صلى الله عليه وآله بقوله (ليُحَجّن البيت، وليُعتَمَرَن بعد خروج يأجوج ومأجوج)([263]).

من هنا فأنت تجد أن الروايات المصرِّحة بفتح يأجوج ومأجوج على الأرض لا تقدم صورة كاملة ومفهومة بخلاف القول بكونهم من كائنات الفضاء، ومن هذه الروايات ما رواه ابن ماجه (عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم قال تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال الله تعالى وهم من كل حدب ينسلون، فيعمون الأرض، وينحاز منهم المسلمون، حتى تصير بقية المسلمين في مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، حتى أنهم ليمرون بالنهر فيشربونه، حتى ما يذرون فيه شيئا، فيمر آخرهم على أثرهم، فيقول قائلهم: لقد كان بهذا المكان، مرة، ماء، ويظهرون على الأرض،. فيقول قائلهم: هؤلاء أهل الأرض، قد فرغنا منهم. ولننازلن أهل السماء. حتى إن أحدهم ليهز حربته إلى السماء، فترجع مخضبة بالدم. فيقولون: قد قتلنا أهل السماء) ([264])..

والذي يظهر من قرائن بعض الروايات يمكن القول بأن فتح يأجوج ومأجوج يكون بعد ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه ووفاته ونزول المسيح عليه السلام، لكون المسيح ذُكر حيا بعد موتهم في عدة روايات، بل إن موتهم الذي سنمر عليه حدث بفعل دعاء عيسى المسيح عليه السلام ([265])، لذا ذكرت الروايات بأن الله يُرسل الريح التي تأخذ أرواح المؤمنين، فتقوم القيامة على شرار الناس إذ أن الروايات تنصّ على أن الله(يبعث ريحا فيه زمهرير باردة فلا تدع على وجه الأرض مؤمنا إلا كفت بتلك الريح، ثم تقوم الساعة على شرار الناس، ثم يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه، ولا يبقى خلق الله عز وجل في السماوات والأرض إلا مات إلا من شاء ربك ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون، قال فليس من بني آدم خلق إلا في الأرض منه شيء. إلى آخر حديثه عن القيامة والحساب وشفاعة النبي صلى الله عليه وآله)([266]).

ولكننا من الممكن أن نحتمل التاريخ إجمالا وذلك من خلال الآيات القرآنية:

قال تعالى:

حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (الانبياء:97).

الى قوله:

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (الأنبياء:104).

فإذا أضفنا لذلك قوله تعالى في سورة الكهف بعد سرد قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج اذ يقول تعالى:

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (الكهف:98)

يتحصل لدينا أن فتح يأجوج ومأجوج يحدث عندما يقترب (الوعد الحق)، فمتى يقع الوعد الحق؟!

فـ(الوعد) جاء في القرآن على أنحاء وبأوصاف منها (وعد الحسنى) كما قال تعالى:

لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى (النساء:95).

وقوله تعالى:

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (الحديد:10)

ومنها (الوعد الحسن) كما قال تعالى:

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (طـه:86).

وقوله تعالى:

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (القصص:61)

وهناك (وعد الغرور) وهو وعد الظالمين والشيطان:

يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (النساء:120) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (الإسراء:64) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (فاطر:40)

وهنالك (وعد الحق):

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (لقمان:33)

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (إبراهيم:22) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (الأعراف:44) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (النساء:122) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (يونس:4) إلى العديد من الآيات..

وموضوعنا هنا هو الوعد الحق الذي جاء في سورتي الكهف والأنبياء والذي لازم يأجوج ومأجوج..

إذ قال تعالى في سورة الكهف بعد ذكر ما يتعلق بيأجوج ومأجوج:

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (الكهف:98).

وقال تعالى في سورة الأنبياء بعد ذكر يأجوج ومأجوج:

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (الأنبياء:97) والفرق بين الموردين أن سورة الكهف تصرِّح بأن كلام ذي القرنين يشير إلى أن الردم الذي بناه سيصبح (دكّا) حين يأتي الوعد الحق، أي أن الترتيب الزمني يقتضي أن يأتي الوعد الحق ثم عندها سيُدَك الردم،لكن سورة الأنبياء يظهر منها أن شخوص الأبصار مرتبط بفتح يأجوج ومأجوج وذلك عند (اقتراب) الوعد الحق! أي أن الترتيب الزمني يقتضي على هذا أن تفتح يأجوج ومأجوج عند (اقتراب) الوعد الحق وليس بعده!فكيف نزيل هذا الالتباس المتُوَهَم؟!

في الحقيقة أن المسألة هينة ولا تحتاج الى كثير تفكير، وبمجرد ان نقرّب المراحل الزمنية التي يتم فيها فتح يأجوج ومأجوج، سنفهم كيف نوجه الآيتين بلا أي تناقض بينهما, فقوله تعالى في سورة الكهف (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي) يفترق عن قوله تعالى في سورة الأنبياء وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فالمجيء غير الاقتراب طبعا, لذا فسورة الأنبياء تتحدث عن مرحلة زمنية سابقة لمرحلة سورة الكهف وسيكون الترتيب الزمني كالتالي:

(1) دك الردم

(2) العلم باقتراب الوعد الحق

(3) شخوص الأبصار وانتظار فتح يأجوج ومأجوج

(4) فتح يأجوج ومأجوج (مجيء الوعد)

لذا فالشخوص على هذا يسبق نزول يأجوج ومأجوج بوقت معين، وذلك بعد أن يعلم أهل الأرض بأن الردم قد جعله الله دكّا (بطريقة ما) وعندها تشخص الأبصار إلى السماء (أي مرتفعة الأجفان لا تكاد تطرف من هول ما هي فيه)([267]).

وأكد سبحانه هذا بقوله وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (إبراهيم:43) وهو وصف رائع ودقيق لمن هو في موقفهم من الخوف والهلع والرعب المسيطر، الذي لا يستطيع معه الإنسان أن يفكر بأي شيء سوى كيفية الخلاص من هذه المحنة!

ولكوننا نتكلم عن عهد ما بعد ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وبالتالي فَرُقِي الإمامعجل الله تعالى فرجه الشريف في السموات واتصال أهل الأرض بسكان الكواكب، يكون من المسائل العادية في ذلك الزمان، وعليه فنفترض بأن أهل الأرض عندها سيعلمون مكان هذه الأقوام الهمجية بالضبط، وسيعرفون تفاصيل كثيرة عنها، كل ما في الأمر إن هذه الأقوام ممنوعة من الاتصال بباقي المخلوقات لكونها أقوام فاسدة مُفسِدة، والذي يكفّ شرها عن الخلق هو الردم، وعليه فعند دك الردم سيعلم أهل الأرض عن طريق وسائلهم التقنية بذلك، وسينتظرون نزولهم إلى الأرض وهم مستسلمون، وسينتظر الناس الهلاك الآتي من السماء وهم مكتوفو الأيدي فلا قوة تكون قادرة على ردع هذه الأقوام المتوحشة الكثيرة العدد والعدة، والمرعبة الخِلقة، ولا هم قادرون على الفرار من الأرض للوقت الضيق عندها، لذا لم يفعلوا سوى أن ينحازوا إلى الحصون (كما تكرر الروايات) وهذا رد فعل طبيعي لكل من هو في موقفهم الصعب في تلك اللحظة. لذا فاقرب ما نعتقده كتفسير للوعد هو ما وعده سبحانه للظالمين بقوله:

وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (ابراهيم:43)

فالوعد هو للظالمين، إذ عند نزول يأجوج ومأجوج تصرح الروايات بأن المسلمين ومعهم عيسى المسيح سيكونون سويّة، وان إهلاك يأجوج ومأجوج يكون بسبب دعاء المسيح ولكن الروايات سكتت عما سيصيب الظالمين عندها!.

ويمكننا أن نفترض (ومن خلال دراستنا للظالمين وسلوكهم مع المصلحين في كل زمان) إن الظالمين لن يصدّقوا بأي شيء من هذا الكلام، وقد يكونون قد فعلوا ما فعله ابن نوح من قوله تعالى:

قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (هود:43) فابن نوح مع انه ابن نبي لكنه لم يكن يصدق ما كان يقوله أبوه نوح عليه السلام، ولما حدث ما كان أبوه يحذره إياه أبى أن يصعد معه السفينة عتوّا وكفرا، وهذا ما سيفعله الظالمون مع يأجوج ومأجوج، فالظالمون لن يصدقوا أو على الأقل لن يأخذوا بجدّية التحذير من يأجوج ومأجوج، وبالتالي لن يأخذوا احتياطات لهذا كما فعل المسلمون, وقد يسأل سائل:كيف يحتمي عيسى عليه السلام والمسلمون من هؤلاء المتوحشين؟! والجواب هو أن الروايات ذكرت بأنهم (سينحازون إلى الحصون) وقد تكون هذه الحصون أنظمة دفاعية عسكرية، أو ملاجئ قوية ذخرها الإمام المهديعجل الله تعالى فرجه الشريف، أو حتى عيسى المسيح عليه السلام للمسلمين لذلك الوقت ومن هنا فقد يكون هذا الجواب فاتحا لجواب آخر وتفسير جديد لما ذكر في الروايات من بقاء ثلث الناس وهم المسلمون والله اعلم. وورود اسم المسيح عليه السلام بدون كر الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وقت فتح يأجوج ومأجوج يثبت ان هذه الفترة هي فترة ما بعد ظهور الإمام وشهادته, وليس غريبا أن يتم التحضير لنزول هذه المخلوقات، إذ أننا شهدنا برامج مشابهة في الاتحاد السوفيتي وأميركا في زمن الحرب الباردة، إذ تم الكشف بعد زوال الاتحاد السوفيتي عن مدينة كاملة يمكن أن تستوعب عشرين ألفاً من كوادر الحزب الشيوعي السوفيتي ومن المفكرين والعلماء وقادة البلاد، وتوفر لهم كل الاحتياجات الضرورية للحياة وعلى مدى عدة سنوات ولهذه المدينة مدخل واحد يقع في أحد زوايا مبنى الكرملين في موسكو, فإذا كان هكذا شيء قد خطر على بال الناس في الستينات والسبعينات، فمن الممكن ان يكون مثل هذا التحضير بشكل أرقى في زمان قادم.

ومما يلفت الانتباه هو طريقة موت هذه المخلوقات! إذ أن مخلوقات بهذه الكثرة والقوة يقف ابن آدم عاجزا بكل قواه عن التصدي لها، رغم وجود نبي مثل عيسى المسيح بين ظهرانيهم لذا كان دور النبي هو الاعتصام بالمسلمين في بعض المدن المحصنة والملاجئ، والدعاء عليهم فيسلط الله عليهم (النغف)، وقد اتفق على كونه دوداً صغيراً يكون أنوف في الحيوانات المجترّة([268]) إذ روى ابن ماجه (فبينما هم كذلك، إذ بعث الله دواب كنغف الجراد. فتأخذ بأعناقهم فيموتون موت الجراد. يركب بعضهم بعضا. فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حسا. فيقولون: من رجل يشرى نفسه، وينظر ما فعلوا؟ فينزل منهم رجل قد وطن نفسه على أن يقتلوه. فيجدهم موتى. فيناديهم: ألا أبشروا. فقد هلك عدوكم. فيخرج الناس ويخلون سبيل مواشيهم. فما يكون لهم رعى إلا لحومهم. فتشكر عليها، كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قط) ([269])..

وطريقة موتهم من أدل الأمور على دور اختلاف البيئات في النظام الغذائي للمخلوقات اجمع ففي الأرض لا يكون اللحم من بين اختيارات(النغف)، بل هو يعتاش على النخام وما يعلق به من أقذار في تجاويف الرأس في الحيوانات المجّترة، فما الذي يجعله يقع في رقاب يأجوج ومأجوج (كما في الروايات) ولماذا يختار رقابهم فقط لأكلها؟! وهل لهذا علاقة بخلقهم وهل يدل ذلك على أن أجزاء من أجسام هذه المخلوقات تتكون من مواد مخاطية تجذب النغف إليها وتكون هي المسئولة عن القضاء عليها؟!

كل هذا قد يكشف عنه المستقبل, لكن المعلوم أن الأرض بعد إبادة يأجوج ومأجوج ليست قبل فتحهم، إذ ستتغير الحياة وليس لنا أن نفصل في ذلك إلا من خلال إشارات نبوية منها ما روي من قوله (لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج) ([270]) إذ عندها ستُدمر حضارات العالم الحديثة، وتندثر الأسلحة الفتاكة وموارد صنعها، وقد يكون للنقص الشديد بالأيدي العاملة جراء إفساد يأجوج ومأجوج دور في ذلك، لذا تجد السلام السائد بين الباقي من شعوب الأرض ليس ناتجا عن الوئام الحقيقي, بل عن استنزاف الموارد البشرية والاقتصادية الذي تَسبّب به المفسدون بعد فتحهم. ومما مر علينا نعلم أن فتح يأجوج ومأجوج من علامات الساعة وليس من علامات ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف كيف وهم يفتحون بعد قتله؟ لذا فمن الخطأ بمكان أن يعدهم المؤلفون مع علامات ظهوره!.


(الذين لا يعلمون) في القرآن

ورد مركّب (لا يعلمون) مكررا كثيرا في القرآن فهل لهذا التركيب خصائص معينة، في الحقيقة فإن تركيب لا يعلمون مكرر في القرآن في ثلاثة وأربعين موردا منها:

خمسة موارد منها في صيغة (الذين لا يعلمون):

كما في قوله تعالى:

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (البقرة:113).

وقوله تعالى:

وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (البقرة:118).

وقوله تعالى:

نام کتاب : بحوث لفظية قرآنية نویسنده : عبد الرحمن العقيلي    جلد : 1  صفحه : 256
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست